سياسة

الفائزون في لعبة الشطرنج بالشمال السوري


قبل أسبوعين من هذا التاريخ، تحدثنا عن جامعة الدول العربية وأشدنا بموقفها التضامني مع سوريا، في مواجهة الغزو التركي للحدود الشمالية، وتحديداً في المناطق التي يوجد بها أكراد سوريا. وقد نأينا في ذلك الحديث عن الاستغراق في القراءة التحليلية، على الرغم من أهميتها. وكان الهدف من هذا النأي، هو ألا يتيه الموقف المساند لوحدة سوريا واستقلالها، وفرض الدولة سيادتها فوق أراضيها، وسط القراءة التحليلية.

نعاود الحديث عن هذا الموضوع لاعتقادنا أهمية رصد المواقف السياسية الإقليمية والدولية تجاه منطقتنا العربية من جهة، وما تفرضه المتغيرات في موازين القوى الدولية من أجندات جديدة، من جهة أخرى.

تاريخياً، وعلى الرغم من الاختلاف في التوجهات السياسية وفي طبيعة التحالفات الدولية والإقليمية، تجتمع حكومات تركيا وإيران والعراق وسوريا، على موقف واحد تجاه الأكراد الموجودين فوق أراضيهم. فهي تنطلق جميعاً من النظرة إلى الأكراد، كمكون اجتماعي وترفض لفترة طويلة من الزمن أن تكون لهم حقوق قومية خاصة بهم، خارج إطار انتمائهم الوطني للبلدان التي يوجدون بها.

العراق وحده بين هذه البلدان، اعترف منذ مطالع السبعينيات من القرن المنصرم بوجود حقوق ثقافية، تضمنت اعتراف الحكومة العراقية باللغة الكردية، كلغة رئيسية ثانية في البلاد، وتشكيل مجلس تشريعي وحكومة محلية للأكراد شمالي العراق، وصحيفة رسمية خاصة بهم تصدر باللغتين العربية والكردية، عرفت بصحيفة “التآخي”، لكن الزعامات الكردية التقليدية كانت تتوق إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير.

فالهدف بالنسبة لها، كان ولا يزال الاستقلال التام، وإقامة دولة كردية شمالي العراق، تضم مدناً عراقية رئيسية من ضمنها أربيل والسليمانية وكركوك.

وكانت حرب الخليج الثانية، وفرْض الأمريكيين مناطق حظر جوي على الحكومة العراقية في الجنوب والشمال، فرصة سانحة للزعامات الكردية للمضي قدماً في تحقيق هدفها الأثير، في الانفصال النهائي عن العراق، لكن ذلك لم يكن بالمقدور تحقيقه، بسبب الموقف الحاسم لإيران وتركيا وسوريا.

وفي سوريا أعيدت كتابة السيناريو من جديد مع الأكراد السوريين، مع تصاعد الأزمة في البلاد وبلوغها مستوى يقترب من الحرب الأهلية. فكما كانت حرب الخليج الثانية فرصة سانحة للأكراد العراقيين، ليمضوا قدماً نحو تحقيق حلمهم في الاستقلال، استثمر الأكراد الأزمة السياسية التي مرت بها سوريا، ليؤسسوا مليشيات خاصة بهم، باسم قوات “سوريا الديمقراطية” عُرفت لاحقاً بـ”قسد”.

وبالنسبة للإدارة الأمريكية التي توجد لها قوات في الشمال السوري، وقعت بين نارين؛ نار إغضاب الحليف التركي الثابت العضو في حلف الناتو منذ تأسيسه، أو التخلي عن حلفائهم الأكراد، وعدم مساندة مطلبهم في إقامة كيان خاص بهم في سوريا.

الاندفاع الروسي القوي بقيادة فلاديمير بوتين لاستعادة مجد روسيا، وبناء قوتها العسكرية وتحالفها المتين مع الصين الشعبية، وأيضاً التطور الكبير في علاقة روسيا بوتين مع حكومة الرئيس أردوغان، في وقت تجد فيه أمريكا نفسها أحوج ما تكون للحليف التركي، جعل الرئيس ترامب يتخذ القرار الصعب بالانسحاب من الشمال السوري، وتمكين تركيا من توجيه تأديب عسكري للأكراد، بموافقة ضمنية من روسيا الاتحادية.

هدف تركيا الرئيسي والممكن، هو منع الأكراد من تشكيل كيان سياسي خاص بهم، وهو هدف تجمع عليه معظم الأطراف الدولية والإقليمية والعربية، والدولة السورية ذاتها. لكن سوريا في كل الأحوال، لا يمكنها مبدئياً على الأقل، أن تغض الطرف عن خرق سيادة أراضيها، من قبل أي قوة خارجية، خارج الاتفاق معها.

الهدف الرئيسي من الغزو التركي مع الانسحاب العسكري الأمريكي من الشمال السوري، اضطر الأكراد للجوء للحكومة السورية وللجيش السوري، لحمايتهم من العدوان التركي. والعودة مجدداً إلى الخيمة السورية، أفشلت مشروعهم في تشكيل كيان مستقل خاص بهم، وذلك هو ما حدث بالفعل.

من الوجهة العملية، فإن الفائزين من الغزو التركي لشمال سوريا هم كثر، لكن المنتصر الأكبر من وقف العدوان على سوريا هو شعب سوريا، الذي ضمن في هذا الظرف الصعب وحدة أراضيه وأفشل مشروعي الكيان السياسي الكردي والغزو التركي للأراضي السورية.

نقلاً عن “الخليج”

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى