سياسة

العَقائد.. في تشييد الدولِ وهدمِها


شُيدت أكثر الإمبراطوريات على أساس العقيدة الدينية، وتكون مكثفة في الجيوش، كي يكون القتال ضد عدو خارجي أو داخلي في سبيلها، والدولة الوطنية التي تهيمن عليها عقيدة حزبية أو دينية تعبر الجغرافيا، باسم الأُممية أو القومية، لكن هذا التوسع يأتي على الدولة نفسها، فيُنهيها آجلاً أو عاجلاً، وزمَن الإمبراطوريات أو الدول العقائدية، دينية أو غير دينية قد انتهى، فالعولمة شكلت إمبراطوريات افتراضية بأسلوب آخر، ليس عن طريق الجيوش ولا تصدير العقائد، إنما عن طريق الفعل العلمي والاقتصادي والثَّقافي، وليس أمام الاتصال بالعالم، مِن أي نُقطة كانت، غير لمحة البصر، فمِن أين جاء لشباب العِراق كل هذا الوعي الراقي الذي فاجأ العالم، حتى أسقطوا الثقافة الدينية الضيقة في النظر لِما بين الشابات والشبان، عندما كانوا في مهمة واحدة، هي إحياء الوطن، ومِن أين للشباب السعودي هذا الاطلاع على الفن الكوري والياباني، والتصرف الأخلاقي في المناسبات المختلطة، واستيعاب الانفتاح على الفن والثَّقافة، على الرَّغم مِن قيود صارمة لعقود بفعل الصحوة الدينية.

بمعنى لم تعد العقائد ساريّة المفعول، فماذا حصل للجيش العراقي عندما صار عنده الحزب أكبر مِن الوطن؟! هذا ما حذر منه رئيس الأركان الأسبق، إبراهيم فيصل الأنصاري (ت2010)، عندما أعيد لرئاسة الأركان في بداية (انقلاب 1968)، وسرت في الجيش القرارات العقائدية، فاعتبر ذلك خراباً في الجيش (خماس، مذكرات إبراهيم فيصل الأنصاري)، فكانت النتيجة أن الجيش أخذ يُقتل بعقيدة حزبية لا عقيدة وطنية؟!

                                   
لهذا مهما كانت العقيدة صارمة، لم تكن بصالح الدَّولة والشَّعب، إنما تتحول إلى الحفاظ على الحزب الحاكم، وليس الوطن، نسأل، أين التربية العقائدية لخمسة وثلاثين عاماً بالعراق؟! غير تحول ممَن اعتنقوها بيُسر إلى الأحزاب الدينية اليوم، لكن ليس هناك مِن وعي بما مضى مِن تجربة، فالجيش الحالي عُمل على تغذيته بالعقائديين الدينيين، ظناً أنه سيكون حارساً لنظامهم، مع ذلك ليس مِن ثقة به، لأن الأجيال الجديدة لا بد أن تغذيه، حتى وإن كانت عقائدية بالتربية، لذا أظهروا الجيش الرَّديف، الذي مهمته حماية النِّظام.

ليس الأمر جديداً في الاتكاء على العقيدة في السلطة، فالتجربة العباسية مع عقيدة «خلق القرآن» خير مثال على تآكل الدولة، والسبب ليس بالقضية نفسها، إنما بتبني الدولة لها، فلو بقيت محصورة بين المتكلمين والفقهاء كقضية إشكاليَّة، لِما أدت إلى نزاعات، وبنيت عليها مواقف كراهيَّة، لكن الأمر وصل إلى امتحان الأسرى بها، عندما يحصل تبادلهم بين المسلمين والبيزنطيين، ودخلت إلى الجيش العباسي، فعندما يذكر المؤرخون «أهل الثغور» يعنون الجيش المرابط على الحدود، ناهيك عن امتحان الفقهاء والشعراء والأدباء بها، بدأت مع الفقهاء في عهد عبد الله المأمون(ت218هجرية)، واشتدت في زمن خلافة أخيه إسحاق المعتصم(ت227هجرية)، ووصلت أشدها في زمن ابن الأخير هارون الواثق بالله(ت 233هجرية).

جاء في الرواية، السَّنة (231هجرية): «أمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعاً، إلا أربعة نفر، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه، وأمر لجميع أهل الثغور بجوائز» (الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك).

أما عن امتحان الأسرى المراد تبادلهم مع أسرى الرُّوم، فكان عددهم ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة، «فأمر الواثق بفدائهم… ووجه من يمتحن الأسرى من المسلمين، فمن قال منهم: إن القرآن مخلوق، وإن الله عزَّ وجلَّ لا يرى في الآخرة فودي به، ومن لم يقل ذلك تُرك في أيدي الرُّوم»، فتصوروا ماذا سيقول الأسير المتلهف إلى رؤية أهله وأرضه غير القبول بعقيدة الدَّولة، ذهب ذلك كله بانقلاب جعفر المتوكل(ت247هجرية) على عقيدة الخلفاء الثلاثة مِن أسلافه، كذلك ماذا تريد مِن قائد يقف محارباً في الثغور، وهو يُخير بين قطع رأسه أو الإقرار بعقيدة الدَّولة؟!

صار القول بـ «خلق القرآن» عقيدة للدولة العباسية، وكان السبب في فرضها، ليس المعتزلة أصحابها، إنما احتياج الحُكم إلى فكرة يجابه بها الخصوم، الذين هيمنوا كـ«مطاوعة» على بغداد، وسط المفاسد والفوضى التي تركتها الحرب بين الأمين والمأمون، فصارت عقيدة سياسية ودينية رسمية، عُممت على الجيش والقضاء وكل مفاصل الدولة، مع أن الفكرة بحد ذاتها لها إيجابيات، ومنها اعتبارها مِن أصل العدل، أي أن القرآن نزل على مصالح العباد، وهذا ما يُحدد التَّعامل مع الزَّمن، والأخذ بأسباب النُّزول في تفسير القرآن وليس على المعنى العام.

انتهت العقيدة الصَّفوية نفسها، ورُدت ضد ملوكها ونواب الإمام الذين فرضوهم، وانتهت البكتاشية وهي عقيدة الجيش العثماني، التي تألفت على أساسها «الإنكشارية»، يخطأ مَن يظن أن العقائد تُشيد الدول والأنظمة ولا تحمل في داخلها جرثومة هلاكها، أرى الشباب العراقي قدموا لنا مثالاً حيَّاً، فآباؤهم المتشبعون بعقيدة الحزب نزعوها مثلما تُنزع الثّياب، وهم الذين تشبعوا بما فاضت عليهم المنابر الدينية، فضاقت على قياس عقولهم فرموا بها سريعاً، وثاروا ضدها بحثاً عن الوطن الرَّحب، ولولا أزيز رصاص القناصين والغاز القاتل لهدموا النَّظام الذي أعتقد أنه محمي بما يُلقى مِن على أعواد المنابر.

جرى على لسان أبي إسحاق إسماعيل المشهور بأبي العتاهيَّة(ت210هـ)، ما يقطع ما أملتنا به دول العقائد، وكان يُخاطب الدُّنيا: «قَطّعْتُ مِنْكِ حبَائِلَ الآمالِ/وحَططْتُ عَنْ ظَهْرِ المطيِّ رحالي/ووَجدْتُ برْدَ اليأسِ بَيْنَ جَوانِحِي/وأَرَحتُ مِن حلٍّ ومِن ترْحالِ» (الأنوار الزَّاهيَّة في ديوان أبي العتاهيَّة).

نقلاً عن الاتحاد

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى