العثمانيون وفن القفز على الفرص
ما أن بدأت أزمة رسوم شارلي إيبدو المسيئة للمسلمين حتى وثب أردوغان يجعجع مهاجما فرنسا ومطالبا بمقاطعتها.. وكأنما اكتشف أردوغان لتوه أن للمسلمين مشاعرا تؤذى، وكأنما كل من قتلهم جنوده ومرتزقته في سوريا والعراق وليبيا لا يؤذي قتلهم مشاعر المسلمين.. ولكأنما استخدامه اللاجئين السوريين كورقة ضغط على أوروبا ليس بالمؤذي لا لمشاعر المسلمين وحدهم وإنما لأي إنسان سوي النفس!
ولكن كما نقول في الأمثال المصرية “هي عادتهم ولا حيشتروها؟” أي أن ما قام به هو سُنة عثمانية قديمة انتهجها الأسلاف وأحيتها الأذناب!
فلطالما نظر العثمانيون إلى القضايا ذات البُعد الإسلامي باعتبارها “فرصًا” للدعاية السياسية لمشاريعهم التوسعية..
بداية من فتح القسطنطينية.. فالمدينة العجوز كان فتحها ضرورة استراتيجية للعثمانيين لتسهيل الاتصال بين جناحي الدولة الآسيوي والأوروبي.. ولفتحها قيمة معنوية كبيرة عند المسلمين، لذكره في بعض الأحاديث المنسوبة للرسول محمد… وبغض النظر عن الجدل حول صحة تلك الأحاديث أو عن تفسيرها فإن العثمانيين قد استغلوا تلك الواقعة ليعمموا المدح المذكور في الحديث لأمير جيش فتح القسطنطينية وجيش الفتح نفسه على كل التاريخ العثماني، فصار الحديث بمثابة حَصانة من النقد لدولة العثمانيين كلها!
ثم بعد ذلك في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي عندما قامت في إيران دولة الصفويين الذين اعتنقوا المذهب الشيعي الإثنا عشري وتعصبوا له راح العثمانيون يروجون في دعايتهم أنهم إنما يحاربون لأجل مذهب السُنة.. وهو التبرير الذي قدمه سليم الأول العثماني عشية بدئه العدوان على دولة المماليك، فقد استغل رفض السلطان المملوكي قنصوة الغوري التحالف معه ضد الصفويين-الذين كانوا بالفعل أعداءً لدولة المماليك-واستصدر فتوى بخيانة المماليك وخروجهم عن الدين ليبرر تحركه العدواني على دولة مسلمة لم تبادءه بالعدوان.. وأصبح ذلك هو مبرر العثمانيين القدامى والجدد وغلمانهم حين ينتقد البعض غزو العثمانيين للشام ومصر فيقول هؤلاء المبررين “كانوا يدافعون عن المذهب السُني”، وكأنما لم تكن للعثمانيين سوابق في الاعتداء على دولة المماليك منذ عهد سلطانهم بايزيد الثاني بل ومنذ عهد بايزيد الأول نفسه!
وعندما تعرضت دولة المسلمين في الأندلس لنكبة السقوط وابتُلِيَ مسلمو الأندلس المعروفون ب”الموريسكيين” باضطهاد السلطة الإسبانية المتعصبة كاثوليكيًا، تطوع بعض المسلمين من التُرك واليونانيين والمغاربة والعرب بقيادة الأخوان “بارباروسا” لمد يد العون لإخوانهم في الدين ضد ما يلاقون.. وللدفاع عن سواحل شمالي أفريقيا من العدوان الأوروبي والأطماع الاستعمارية، بينما كان العثمانيون يتلقون استغاثات الأندلسيين فلا يزيدون على أن يعدوهم بالخير ومد يد العون والنصائح بالصبر والثبات… ثم حين نشبت الح
رب بين آل عثمان وإمبراطورية آل هابسبورغ التي كانت تحكم أغلب أوروبا قرر العثمانيون أن يقفزوا على كفاح بارباروسا ورجاله بأن يقدموا لهم دعمًا معنويًا رمزيًا على أن ينفذوا مهامًا لصالحهم لمضايقة هابسبورج وفتح جبهة بحرية عليهم إضافة لتلك البرية المفتوحة في شرقي أوروبا.. بحيث يبدو الأمر بعد ذلك أن العثمانيون قد حاربوا من أجل مسلمي الأندلس ودافعوا عن بلاد المسلمين في شمالي أفريقيا من الغزاة فيكونوا بذلك قد كسبوا موطيء قدم في غرب المتوسط من ناحية وأضافوا لدعاياتهم السياسية والروحية بين الرعايا دعاية جديدة من ناحية أخرى! بينما حقيقة الأمر أن الدفاع عن شمالي أفريقيا قد كان نتيجة “الجهود الذاتية” للأخوين بارباروسا ومن معهما من المجاهدين ولا فضل للعثمانيين فيه على الإطلاق..
بل ولقد استغلوا حالة الحرب مع هابسبورج لقمع الداخل فأشاعوا أن أوروبا تحارب “المسلمين” حربًا “صليبية”، مما يخلق حالة من الشرعية الزائفة لتسلط العثمانيين على الشعوب العربية والإسلامية، تلك الشرعية التي اكتسبها الزنكيين والأيوبيين والمماليك بالفعل بينما اختلقها العثمانيين! خاصة وأن حروب آل زنكي وآل أيوب والمماليك كانت حروبًا دفاعية بالفعل ضد غاز أجنبي، بينما كانت حروب العثمانيين توسعية نفعية، والتوسع لا يعيب الدول في ذلك العصر حيث كان قانون العالم هو “إن لم تغزو غُزيت” وإنما يعيبها الكذب أو كما قال الأقدمون “إن شر الملوك فضيحة الكذاب”
جدير بالذكر أن العثمانيين الذين كانوا يقدمون لعوام الناس دعاية تشيطن الآخر باعتباره طامعًا في بلادهم متعطشًا لنهب ثرواتهم، كان سلاطينهم من سليمان القانون يقدمون الامتيازات للفرنسيين بل ويسمحون لهم بإضفاء حمايتهم على من يرتبط بهم من المواطنين العثمانيين إلى درجة منحه امتيازات في مواجهة القضاء العثماني نفسه! على حد علمي كانت فرنسا تقع في أوروبا ودينها هو نفس دين ملوك هابسبورج ولها سوابق في محاولة غزو “بلاد المسلمين” فعلام إذن يصدع العثمانيون رؤوسنا بأنهم “كانوا يحاربون أوروبا الاستعمارية لأجل نصرة الإسلام” بينما الأمر في حقيقته مجرد “مصالح”؟
بل وفي عهد الحروب العثمانية الروسية كان العثمانيون ينشرون دعاية أنهم إنما يحاربون الروس حماية لبلاد الإسلام من أطماعهم، ونصرة للمسلمين المستضعفين في روسيا، فما الذي تغير حتى يسعى العثمانيون لإبرام معاهدة “خونكار إسكله سي” مع روسيا ويطلبون مساعدة الروس الذين كانوا أمس الأول “الكفار أعداء الإسلام” لحماية اسطنبول من جيوش إبراهيم باشا ومحمد علي باشا التي أذلت ناصية الجيوش العثمانية؟ ارتباط السياسة بالمصالح هو أمر واقع وهو أساس السياسة، ولا بأس في أن تكون لك حساباتك السياسية، ولكن محاولة الضحك على العقول هو أمر مشين وعلامة على الجبن والانتهازية الرخيصة!
ماذا عن عبد الحميد الثاني الذي يشيع العثمانيون الجدد أنه كان-واسمحوا لي باستعارة مثل شعبي مصري آخر-“ينيم أوروبا من المغرب”؟ لقد استغل حالة الصراع بين التيارين التغريبي والإسلامي الأصولي وتعرُض المسلمين في روسيا للاضطهاد وقرر أن يعلن تبنيه فكرة “الجامعة الإسلامية” كخطة لمواجهة المطامع الاستعمارية في بلاد المسلمين وحالة التشرذم الإسلامي.. ولكن ماذا عن الدافع الحقيقي له والمتمثل في رغبته ضرب الحركات القومية والوطنية الناهضة خاصة في البلدان العربية؟ وهل يتفق أن يقدم “أمير المؤمنين وخليفة المسلمين” نفسه كحامي الإسلام والمسلمين وبلادهم بينما هو يهدي بريطانيا جزيرة قبرص التي طالما كانت مركزًا للهجمات ضد سواحل مصر والشام سابقًا؟ ماذا عن “الاتحاديون”-حزب الاتحاد والترقي-الذين خلعوه وخلفوه في الحكم عمليًا من وراء أخوه الدمية محمد رشاد الخامس؟ لقد كانوا يروجون أنهم حماة الإسلام والمسلمين من الخطط الأوروبية لتقسيم الشرق، ماذا إذن عن علاقتهم بألمانيا التي رعت مشروعهم للتتريك وحركتهم “الطورانية” لجمع الشعوب التركية لمجرد رغبة الألمان إثارة المشكلات لروسيا؟!
وعودة لأردوغان محيي الحلم الجنوني ببعث العثمانية وهي رميم.. ما الذي يريده بالضبط؟ هل يعتقد حقًا أننا كمسلمين نقتنع أنه يثور ضد فرنسا لمجرد غضبه للإسلام؟ حقًا؟ هل يسيء للإسلام رسم من مجلة معروفة بأنها تحاول أن تثير ضجة رخيصة، تم نشره في بلد غير إسلامي، ولا تسيء له بيوت الدعارة التركية الحاصلة على تراخيص من حكومة أمير المؤمنين أردوجان؟
ألا يسيء له قتل المدنيين وترويع الآمنين في العراق وسوريا وليبيا؟
أم أن معيار الشعور بالإساءة للإسلام والمسلمين عند العثمانيين الجدد مرتبط فقط بما إذا كانت لهم مصلحة في استغلال الحدث لصالحهم أم لا؟