السلطان والقيصر وقره باغ
الحربُ التي اشتعلت، مؤخراً، في ناغورني قره باغ، جنوب جبال القوقاز، بين الأرمن والأذر ليست مفاجأة تماماً، لمن لديهم خلفية بجذور نزاع ليس جديداً، ومتمحوراً، منذ زمن، حول هوية الأرض.
فالأرمن «يعتبرون ناغورني قره باغ آخر معقل للحضارة المسيحية، بينما الأذر يرونها مهداً، وحضانة، ومسقط رأس لشعرائهم وفنانيهم». مفاجأة الحرب الحقة تجسّدت في التدخل التركي في منطقة تعدّ، تاريخياً، ضمن مناطق النفوذ الروسي، ودائرة أمنه الحيوي.
ما يميّز هذه النوعية من الحروب يتمثل في مساحة الكراهية التي تولدها في نفوس الأطراف المتصارعة، وقدرتها على التمدد في الزمن عابرة للأجيال، وتطال كل مناحي الحياة. الأمثلة كثيرة حول العالم، لكن ما يميّز النزاع في إقليم ناغورني قره باغ أنه، باعتراف دولي، يقع داخل حدود أذربيجان. هذا أولاً. أما ثانياً، فإن سكان الإقليم من الأرمن الذين لا يتجاوز عددهم 150 ألف نسمة، عقب إجلاء الأذر في حرب عام 1994، أعلنوا استقلالاً بالإقليم لم يعترف به أحد.
التدخل التركي في النزاع، لا شك أنه مربك، يطرح أسئلة عديدة، في وقت وظروف تمر فيها العلاقات بين أنقرة وموسكو، على وجه الخصوص، بتوتر متصاعد، ناجم عن تنافس محموم بينهما في سوريا، وللتمدد في بلدان عديدة، بغرض توسيع مناطق النفوذ، وربما بدافع يهدف لاستعادة مجد مضى وانقضى.
التدخلات العسكرية التركية، في الفترة الأخيرة، شملت سوريا، والعراق، وليبيا، وشرق المتوسط، وحالياً وصلت إلى جنوب القوقاز. في حين أن التدخلات الروسية شملت سوريا وليبيا، مضافاً إليهما تدخلاتها في أوكرانيا، وروسيا البيضاء وغيرهما من باقي دول وسط أوروبا، التي كانت تدور سابقاً في المدار السوفياتي وحلف وارسو. علاقة روسيا بكل من أرمينيا وأذربيجان معروفة، وهي حريصة على التعامل بحذر وبحياد فيما يخصّ النزاع في كاراباخ، وفي الوقت نفسه تزود الطرفين بالسلاح. وحين اشتعلت الحرب بينهما عام 1994 همَّت تركيا بالتدخل، لكن روسيا حذرتها من مغبة قيامها بذلك.
في قره باغ، كما في سوريا وليبيا، وجد الرئيس إرودغان نفسه، لمرة ثالثة وفي فترة زمنية قصيرة، يحارب في جبهة مضادة للرئيس الروسي بوتين. ويرى معلقون غربيون أن تدخل البلدين في ليبيا والقوقاز لا يخرج عن أن يكون امتداداً لصراعهما التنافسي في سوريا. ويعزون التوجه العدواني التركي مؤخراً، في جزء منه، إلى ما حدث على الساحة الدولية من تغيّرات، أهمها انكماش الدور الأميركي في المنطقة، والانقسام الحاد الذي يمرّ به الاتحاد الأوروبي، والحرب المدمّرة في سوريا، على حدود تركيا الجنوبية. أضف إلى ذلك إيمان الرئيس إردوغان بأن استعراض عضلاته عسكرياً، خارج حدود تركيا، سوف يوفر له مكاناً على مناضد التفاوض مع الدول الكبرى.
ووفقاً للتقارير، ما إن اشتعلت الحرب في قره باغ، حتى كان الرئيس التركي إردوغان أول القافزين إلى حلبة نارها، معلناً دعمه لأذربيجان، ومتهماً أرمينيا بتجاهل الجهود الداعية للتفاوض بغرض إيجاد تسوية نهائية للأزمة، ومطالباً أرمينيا بالانسحاب من أراضٍ احتلتها منذ ثلاثين عاماً، متناسياً ما قامت به تركيا من تدخل واحتلال وتقسيم في جزيرة قبرص عام 1974، واستمر إلى يومنا هذا. في حين أن رؤساء أميركا وروسيا وفرنسا دعوا الطرفين المتحاربين إلى وقف القتال. الجدير بالذكر أن البلدان الثلاثة كانوا أعضاء فيما أطلق عليه اسم «مجموعة مينسك» التي أشرفت عام 1992 على محاولات حفظ السلام بين الطرفين المتنازعين. تركيا، على لسان وزير دفاعها، اعتبرت الدعوة غير جدّية وغير مقنعة.
التقارير ذاتها تؤكد قيام تركيا بتزويد الأذر بالسلاح وبالتدريب. كما تتوفر أدلة على تورطها في القتال، الأمر الذي تنفيه أنقرة. تبنّي تركيا سياسة خارجية عدوانية توسعية أزعج حلفاءها في حلف الناتو، لكن تقارير إعلامية متعددة تنحو إلى أن الرئيس إردوغان سيسبب بتدخلاته هذه أزمة اقتصادية، وتدهور عملة بلاده الليرة، وانخفاضاً في شعبية حزبه.
الخبراء العسكريون في الغرب يشبهون الحرب في قره باغ بمعارك الحرب العالمية الأولى، أي أنها حرب خنادق، بمعنى أن أي تقدم يحرز من قبل أي من الطرفين لن يتعدى أمتاراً قليلة، وبخسائر بشرية كبيرة، ومن الممكن أن يخسره في اليوم التالي. ويعزون نشوب الحرب مؤخراً إلى فشل المجتمع الدولي في وضع تسوية شاملة للأزمة بين أرمينيا وأذربيجان، عقب نهاية حربهما في عام 1994، وهي الحرب التي أدَّت إلى استحواذ الأرمن على الإقليم، وتهجير سكانه من الأذر. وللعلم، فإن الصراع في قره باغ، لم يكن في حالة بيات حتى خلال فترة الحكم السوفياتي، حيث شهدت الثمانينات من القرن الماضي تمرد سكان الإقليم من الأرمن، ومطالبتهم بضمّه إلى أرمينيا السوفياتية.
مع نشوب الحرب تنادى أفراد الجاليات الأرمنية في مختلف بلدان العالم محرضين الشباب على التطوع للقتال. أكبر الجاليات الأرمنية وأغناها توجد في أميركا، بولاية كاليفورنيا، والعديد من شبابها في طريقهم جواً إلى أرمينيا للمشاركة في القتال، خصوصاً بعد ظهور تقارير إعلامية تؤكد قيام تركيا بإرسال قوات مرتزقة من سوريا وليبيا.
نقلا عن الشرق الأوسط