السلام للعراق
كثيرةٌ هي البلدان التي عانت من ويلات الحروب، وكثرٌ هم الناس الذين فقدوا أحبّتهم جرّاء رحاها الدائرة في بقاع المعمورة هنا وهناك،
ولكنْ يبقى العراق البلد الأكثر شوقاً للسلام، فمنذ الأزلِ وهذه الأرض تشهد معارك الكَرِّ والفَرِّ، ولم يرتح أهلوها البتّةَ.
من حربٍ إلى أخرى؛ معادلةٌ أخذت درجة السمة البارزة لبلاد الرافدين التي باتت عنواناً للحزن والدمعِ، فكلّما شرّقَ أبناؤها خلفَ السلام ولّى مغرّباً عنهم، إلّا أنّ الجميل فيهم هو أنّهم رغم هذه الجِراحِ لم يستسلموا.
فالناظر لمشهدِ استقبال العراقيين واحتفائهم بزيارة البابا “فرنسيس” بابا الفاتيكان، يدرك تماماً ماذا يعني السلام لهؤلاء الناس الذين شبعوا قهراً على وطنٍ أمضى عقوداً من الزمن وهو يدور في نفق مظلم.
لا شكّ أن الزيارة الناجحة للبابا ستُرخي بظلالها على ذهنيّةِ كلِّ من يبحث عن السّلام، وستترك أثراً؛ بأنّ الخلقَ عيال الله، والبشر إخوةٌ مهما اختلفت انتماءاتهم، فهذه الزيارة التاريخيّة لا تدعم العراقيين شعباً فحسب، إنّما هي رسالةٌ لكلِّ الظلاميِّين المتطرّفين؛ بأنّ الحياةَ ماضيةٌ رَغم سلوكهم المتطرّف، وإلّا ماذا تعني زيارة البابا للموصل؟!! المدينة التي عاثَ فيها تنظيم “داعش” فساداً وقتلاً وتدميراً وسفكاً للدماء دونَ استثناءٍ لعرقٍ أو دينٍ أو فكرٍ.
ففي الحقيقة إنّ الزيارات الرسميّة بين الدّول ومنذُ الأزلِ تنخرطُ في سياق الدِّلالات الرمزيَّة التي تسعى إلى وضع المَعالم على طريق بناءِ الدُّول وصبغ سياستها بالصِّبغة الدّوليّة والعالميّة، لتكونَ منهجاً لها في التعامل مع الملفّات الداخليّة والخارجيّة، وضمن هذا الإطار تأتي زيارة البابا “فرنسيس” التاريخية للعراق الذي يمرُّ بمرحلةٍ تعدُّ من أخطر المراحل في صراعه الطويلِ على الهويّة والاستقلال التامِّ، فهيَ زيارةٌ روحيّةٌ بامتيازٍ لزعيم روحيٍّ يَدينُ له بالقداسة المُطلقة والزّعامة الروحيّة ما يقارب مِليارَي إنسان، ويُقرّ بها العالم أجمع بتعدّد دياناته وكثرتها، لبلدٍ يراه جلّ هؤلاءِ بلداً ممزّقاً غير آمنٍ تحيطُ به الحروب والنزاعات من كلّ جانبٍ، وتنتهشُه صراعاتٌ دينيّةٌ حوّلته إلى خانةِ الخيارات الصعبة التي أقلّ ما يُقال عنها: “أحلاها مرٌّ” بين مشروع المُرشد الذي تحاول إيران من خلاله قضم العراق وتحويله إلى ثكنةٍ عسكريةٍ للمليشيات الطائفية التي تأتمر بأمر عمائمها، ومشروع الفساد السياسي الذي يعمل على ربط البلاد بأجنداتٍ خارجيّةٍ، ومشروع الإرهاب المتربّصِ به كتنظيم “داعش” الذي على الرغم من اندحاره ما زال يشكّل خطراً على هيئةِ نارٍ تحت الرماد.
فهذه الزيارة عدا عن كونها رسالة سلام لبغداد، فهي تُحمّل الطبقةَ السياسية مسؤولية الاضطلاع بواجباتها تجاه وطنها والمنطقة والعالم أجمع، بإعادة بناء مفهوم المسار الطبيعي لحضارة دجلة والفرات من أجل أنْ تأخذ دورها في القضاء على المشاريع التدميرية الطائفية التي لا تهدف لشيءٍ إلّا لجعل البلدان بؤراً للتشدّد والتطرّف وحدائق خلفيّة للصراعاتِ الدوليّة وساحةَ حربٍ بالوكالة لتصفية الحسابات على حساب العراق وطناً وشعباً، فهذه المشاريع لا ترى في وطن الحضارة والنور والعلم والسلام إلّا ورقةً لمُزايدةٍ هنا وعقدِ صفقةٍ سياسيّةٍ هناك.
فلا بدّ من استلهام المعاني الروحيّة والرمزيّة التي تشعُّ من هذه الزيارة لبناء عراقِ الدّولة، بهويته واستقلاله الذي يليقُ ببلدٍ كان منبعاً للحضارات الإنسانية التي عمرت الكون، وكانَ موئل الديانات السماوية السمحة، فأرضه منبت الكرامات والأولياء والرمزيات الحضارية، فلا بدّ للعراقيين اليوم من التنبُّه إلى هذه الحقيقة التي تليق بوطنهم وصيانتها، فعلى هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة والسلام، فأبناء العراق يبحثون عن هذه اللحظة بما يملكون من طاقات يفجّرونها بصيحاتٍ علَت في الساحات أنِ اتركوا العراق وشأنه، فأبناؤه كَفيلون بإصلاح ذاتِ بينه، إذْ لا يمكن أنْ تكون هذه البلاد ساحةً لتصفية الحسابات بين الدول، وليس من العدل أنْ تُراقَ دماء العراقيين فداءً لأحدٍ، فهم وُلدوا ليعيشوا لا ليموتوا نصرةً للمرشد أو غيره.