سياسة

الدولة العثمانية… خلافة أم إمبراطورية؟


بعد مرور ما يقارب القرن على نهاية الدولة العثمانية؛ نسيت الشعوب التي كانت خاضعة لها بقوة السلاح كل ظلمها ومآسيها، وتجاوزت تلك الفترة بخيرها القليل وشرها الكثير، وبدأت تتعامل مع الأمة التركية على أرضية حسن الجوار والمصالح المشتركة، وتبادل المنافع، والاستفادة من المزايا النسبية الموجودة لدى كل الأطراف.

ثم جاء نظام أردوغان ليعيد إحياء التراث العثماني، ويوظفه ضمن مشروع سياسي يمزج بين القومية العنصرية التركية كجوهر ومحتوى، وبين الإسلام وتاريخه وحضارته كوسيلة لإعادة مجد الترك، وتسييدهم على عالم المسلمين، فقامت الدولة التركية تحت قيادة أردوغان بإحياء العمارة، وتوظيف المساجد واستخدامها أداة في السياسة الخارجية التركية، ووسيلة لتعظيم القوة الناعمة للدولة التركية، وأصبح بناء المسجد العثماني هدفا في ذاته في مناطق لم تطأها قدم عثماني على مر التاريخ؛ مثل دول غرب أفريقيا ودول جنوب شرقي آسيا. كذلك تم توظيف الدراما والفنون، واستخدام الحركات السياسية العميلة لنظام أردوغان لتسويق صورة خيالية متوهمة عن الدولة العثمانية؛ بصفتها خلافة إسلامية جامعة للمسلمين، وحامية لهم.. هنا يأتي هذا السؤال: هل كانت الدولة العثمانية حقا خلافة؟ أم أنها امتداد للإمبراطورية البيزنطية؟

هنا نجد من الضروري التمييز بين نموذجين تاريخيين للحكم: أحدهما عند المسلمين سُمي تاريخيا بالخلافة، وهو في حقيقته حالة تاريخية فرضتها ظروف الواقع، ومعطيات ذلك العصر، ولا علاقة له بالأمر الديني، أو التشريع الرباني. والثاني هو النموذج الإمبراطوري الذي وجد في مناطق كثيرة من العالم؛ كان أشهرها النموذج الروماني بشقيه الغربي الذي عُرف بالإمبراطورية الرومانية المقدسة، وعاصمتها روما، والشرقي الذي عرف بالإمبراطورية البيزنطية، وعاصمتها القسطنطينية التي أصبحت تسمى إسطنبول.

كان أول من قدم تمييزاً علميا قابلا للقياس والرصد التاريخي بين هذين النموذجين المؤرخ العراقي الراحل الدكتور عبد العزيز الدوري”؛ الذي وضع معياراً جوهرياً للتفرقة بين الدولة الإمبراطورية وغيرها من الدول، خصوصا الخلافة الإسلامية كما عرفها الأمويون والعباسيون؛ يقوم هذا المعيار على طبيعة النظام المالي للدولة؛ خصوصاً نظام الضرائب.

في النظام الإمبراطوري يتم جمع الأموال، والضرائب، وكل العوائد من الولايات والأمصار والأقاليم التابعة للإمبراطورية، ويتم نقلها جميعا للعاصمة، ولا تستفيد تلك الولايات والأقاليم منها شيئاً، بحيث تكون الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية في المركز أو في العاصمة مختلفة بصورة كاملة عن الأقاليم التابعة لها، فتكون روما، والقسطنطينية مركزا حضاريا مزدهراً، فيه من العمارة والفنون ورغد العيش والترف القدر العظيم، وتكون الأقاليم والمناطق التابعة لها فقيرة مدقعة، مفلسة، لا يوجد فيها عشر معشار ما في المركز أو العاصمة.

لذلك تكون النظم الإمبراطورية ذات طبيعة استعمارية فجة، تعمل على استنزاف موارد الأقاليم التابعة لها، وتفليسها لصالح المركز الذي يوجد فيه العرق أو الجنس الحاكم، وتكون الفوائد كلها عائدة للجنس الحاكم، وتكون الأجناس التابعة في صورة أقرب للعبيد، لا يستفيدون من خيراتهم شيئا إلا بعد أن يأخذ السيد الحاكم ما يريد.

أما نظام الخلافة في الممارسة التاريخية للخلافة الراشدة وعند الأمويين والعباسيين؛ فقد كان النظام المالي والضرائبي لا مركزياً، فقد كانت الأقاليم تجمع ضرائبها ومواردها المالية، سواء أكانت عشورا أو خراجا أو غيرهما، وتتم إعادة استخدامها في الإقليم نفسه، ولمصلحة الشعب نفسه، والجنس نفسه، ولا يذهب منها للمركز أو العاصمة إلا قدر ضئيل إذا كانت العاصمة في احتياج أو راغبة في الحصول على نصيب معقول من موارد أقاليم معينة تكون شديدة الثراء ولا تحتاج إلى دعم مالي من النظام الضرائبي.

لذلك كانت روما والقسطنطينية هي الحاضرة أو العاصمة المزدهرة، ولم تكن هناك مدينة أخرى ضمن الإمبراطورية تقترب منها في عمارتها وحياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أما في حالة المدينة أو الكوفة أو دمشق أو بغداد أو غيرها من عواصم، فلم تكن أي منها متمايزة بصورة واضحة عن المدن التابعة لها في أقاليم بعيدة، بحيث نجد أنه يكاد لا يكون هناك مركز للحضارة، وإنما هناك تنوع وتوزيع وتعدد للمراكز الحضارية.

وطبقا لهذا المقياس التاريخي ننظر بعمق في تاريخ الدولة العثمانية.. هنا سنجد أنها كانت إمبراطورية أشد قسوة من الإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية، فقد كان النظام المالي للدولة العثمانية نظاما مركزيا شديد الظلم والقسوة، ينهب أموال المناطق التابعة لها نهبا منظما، ويفرض ضرائب غير محددة، وغير معلومة مسبقا، بل تخضع لرغبات السلاطين العثمانيين، ولرغبات الولاة والحكام الذين يعينونهم للأقاليم، وتخضع أكثر لطمع وجشع جامعي الضرائب ذاتهم. 

زيادة على ذلك، فقد مارست الدولة العثمانية كل أساليب النهب والسرقة للمنجزات الحضارية للأقاليم التي أخضعتها بقوة السلاح وبالبطش والعنف الوحشي، فتم نقل الصناع والحرفيين والمهرة من جميع الأقاليم إلى العاصمة إسطنبول، وتم نهب وسرقة المخطوطات والكتب والمنجزات العلمية من جميع الأقاليم إلى عاصمتهم، حتى أنهم سرقوا كل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجرته الشريفة، وتم نقله إلى عاصمتهم.

لقد مثلت الإمبراطورية العثمانية أسوأ نظام حكم على مر تاريخ المسلمين، قام على النهب والسرقة والاستنزاف، وقاد إلى إفقار وتفليس المجتمعات المسلمة التي كانت تابعة لها، وأسهم في تخلف هذه المجتمعات عن التطور الطبيعي الذي كانت تسير فيه، وأعادها قرونا إلى الوراء.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى