سياسة

الخميني ووعود في الهواء: من هم ضحايا آية الله؟


“إنّ الأقليات الدينية سوف تحصل على الحرية الكاملة، وسيتمكن الجميع من التعبير عن آرائهم”، في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1979، صرّح الإمام الخميني بهذه الكلمات للصحفي في وكالة الأنباء الأمريكية “الأسوشيتدبرس”، أوتو دولينغ؛ حيث حاول تصدير مجموعة من الرسائل السياسية إلى الغرب، تتصل بضمان الحريات المدنية وقيم الديمقراطية، خاصة حقوق الأقليات؛ إذ أعلن من منفاه الاختياري بباريس؛ أنّ الديمقراطية الإسلامية ستكون أكثر كمالاً من الديمقراطية الغربية، بحسب تعبيره.

وعد ونكث
كما طالب الخميني بدعم الاستقلال الوطني لإيران، وضمان الحريات الفردية والاجتماعية، بينما استعان في هذا السياق أحد رجال الدين المقربين منه، وقتذاك، آية الله بهشتي، المعروف عنه دعمه للحرية السياسية، وصاحب مقولة “الإسلام دين حرية ولن يتعدى على حرية أي شخص”، قبل أن ينقلب على الأفكار والأشخاص.

ظلّ هاجس الحكومة الإسلامية وبناء حكم ديني يقوم بتصفية التنوع، ويهدّد الحرية داخل المجتمع الإيراني، ويؤسس لدولة ثيوقراطية، لا تسمح سوى بهيمنة وقبضة سلطة رجال الدين، همّاً يشغل العديد من المراقبين، وذلك إثر التحولات التي كانت تجري في إيران، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، بعد سقوط الشاه ووصول الخميني للحكم.

بيد أنّ الخميني وعد في رسالته الأولى للشعب، في الأول من نيسان (أبريل) العام 1979؛ بأنّه “لا يوجد قمع في الإسلام وهناك حرية في الإسلام لجميع الطبقات وللرجال والنساء والبيض والسود”، كما حفل أرشيف الصحافة الغربية، على وجه الخصوص، بتصريحاته التي تؤكّد أنّ “حركته الدينية” لا تعني أنّه “يدير ظهره للتقدم أو العودة إلى الوراء، كما أنّ رجال الدين لن يحكموا، إنما، فقط، هم مراقبون ومرشدون للقادة”.

وعلى ما يبدو؛ أنّ الانقلابات السريعة في المواقف، والخروج من حيز الدعاية السياسية إلى تطبيق مشروع الدولة “الدينية”، والكشف عن الأهداف والنوايا سريعاً؛ حيث بدأ سماع دوي مدافع آية الله، وهو يدشّن مفاصل الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أجساد أكثر من نصف الشعب الإيراني، الذين أضحوا في خصومة سياسية وأيديولوجية معه، قد نجم عنها صعود قوي في حدة الانتقادات والمعارضة الخارجية؛ حيث وصف المفكر الفرنسي، موريس دريون، عن الخميني وفترة إقامته في باريس بأنّها “ليست صفحة مشرقة في تاريخ فرنسا، ولا يمكن فهم تصّرف جيسكار ديستان، ولا ذلك الاهتمام وتلك الإمكانيات التي وضعها بين يدي نبي كاذب، صعود الإسلام السياسي بدأ من هنا”.

كما أنّ هؤلاء الذين انسحبوا من دائرة الشرعية في حساب المفاهيم السياسية والأيديولوجية الجديدة، ومن بينهم، الأقليات القومية والدينية والعرقية والإثنية، بينما الخميني يبعث في أرجاء المجتمع والدولة بأفكار “الولي الفقيه”، جعلت رونالد ريغان، الرئيس السابق للولايات المتحدة، يقول في مناظرة تلفزيونية مشهورة، في تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1984، أمام وولتر مونديل، نائب الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وهو يتابع الجحيم الإيراني في الداخل، وتأثيراته الإقليمية والعالمية: إنّ “سياستنا الخاطئة هي التي أدّت إلى سقوط الشاه في إيران، وهي نقطة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ونتيجة لهذه السياسات، استطاع متعصب مجنون أن يمسك بزمام الأمور في طهران، ليرسل آلاف الإيرانيين إلى أفواج النيران”.

كانت نتائج بناء الدولة الوطنية الحديثة في إيران، منذ مطلع القرن العشرين وحتى اليوم، متواضعة إلى حدّ بعيد، فقد فشلت الدولة البهلوية في استكمال مشروعها الحداثي، لما عجزت عن إيجاد صيغة للتعايش بين الهويات المتنازعة، واتجهت لتبنّي مشروع علماني لفصل ماضي إيران عن حاضرها، كما وقعت في الخطأ نفسه الجمهورية الإسلامية، عندما تبنت مشروعاً دينياً ثيوقراطياً، استلهمت أفكاره وأسسه من الخبرة الشيعية التاريخية، وعليه حاول النموذجان فرض هوية بعينها على المجتمع ومكوّناته.

صعود الفاشية الدينية
وفي دراسته المنشورة “المواطنة في إيران.. الأبعاد الثقافية والتنموية”، يشير الباحث في العلوم الاجتماعية، رامي شفيق فرحات، إلى أنّه على الرغم من التناقض بين الطرح العلماني الذي تبناه نظام الشاه قبل الثورة، وبين الطرح الديني الذي تبناه النظام المنبثق عن نظرية ولاية الفقيه، إلا أنّ كليهما لم يصل لصيغة وطنية غير متنازع عليها؛ فالمشروعان بخطابهما الثقافي وسياساتهما التنموية لم يجسدا سوى مشروع استبداد حقيقي أحدهما بوجه علماني، والآخر بوجه ديني، وما جمعهما في الحقيقة هو أنهما لم يسهما في تعزيز بنية الدولة من خلال الدمج بين مكوناتها، ولا تعزيز قيم المواطنة والتعايش، وبالتالي، استمرت حالة الصراع الداخلي، على كافة المستويات والأطر السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما قاد في النهاية إلى حالة الضعف الراهنة التي تعاني منها الدولة في إيران.

ويضيف: “في ظلّ ولاية الفقيه يجسد دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التناقضات الكلية في فضاء الإسلام السياسي، الذي يرتكز على كونه يتضمن الحلول الناجزة لكافة المشكلات والمعضلات في أرجاء المعمورة، وكذا، ما تنتجه نظرية الولي الفقيه من سيطرة مطلقة لطبقة رجال الدين، وتحكم من خلال مرجعية شمولية تستمد من التراث الديني الخاص بها كلّ سمات القداسة والعصمة، وذلك في مقابل فكرة سيادة الشعب والمواطنة”.

 

الأقليات في إيران
وفي ظلّ هذا الواقع المرتهن للاستبداد الديني والذي عمد إلى ألا تتمتع الأقليات الإيرانية بحقّ إدارة شؤونها الذاتية، كما لا تتمتع بسلطة اتّخاذ قرار بشأن أوضاعها، وضعف تمثيلها داخل مؤسسات الدولة، فإنّه لم يحرم قطاعات واسعة من المواطنين من المشاركة السياسية، والتعبير عن حقوقهم ومطالبهم، فقط، بحسب المصدر ذاته، إنما دفع بمجموعات، لا يستهان بها، إلى ثورة في مواجهة الدولة، وذلك عبر عقود وفترات تاريخية عديدة، عكست هذه البنية المأزومة وتوتراتها المرشحة للاستمرار والتواصل.

ففي ثمانينيات القرن الماضي، وقعت احتجاجات عنيفة عرفت بثورة الأقليات، فضلاً عن العديد من الاحتجاجات التي رأت في قيود ولاية الفقيه حرماناً حقيقياً من حقوق المواطنة، كالاحتجاجات التي وقعت بين عامي 1999 و2009، وكذا، التي اندلعت منذ العام 2017، ترافقها مجموعة من الاحتجاجات الفئوية المتصاعدة، لا سيما في المناطق المهمشة.

لم تظهر المسودة الأولى للدستور الإيراني ميلاً نحو نظرية ولاية الفقيه، بينما لم تخصص مراكز ثابتة للفقهاء الشرعيين، بيد أنّ الخميني شرع بعد ذلك بقليل في تضمين الدستور مبدأ “الولي الفقيه”، بقوة ووضوح شديدين؛ حيث يشير الكاتب والباحث الإيراني، محمد مصطفوي، في كتابه “نظريات الحكم والدولة دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الدستوري”، إلى أنّه عمد إلى إجراءات دستورية وعقائدية تعسفية في سياق تمرير قراءته السياسية والسلطوية، وحتى يكون بمقدوره القبض على زمام الحكم، ووضع هيمنته ورؤيته الشاملتين، وهو الأمر الذي اكتمل وتبلور بصورة نهائية، في كانون الثاني (يناير) العام 1988، عندما أعلن الخميني حكم ولاية الفقيه المطلقة.

القتل والقمع بمسوغات شرعية
بحسب دستور الجمهورية الإسلامية؛ فهي دولة تخضع لسلطة رجال الدين، على أساس الوصاية والولاية الدائمة؛ إذ نصّ الدستور أنّه لا يحقّ الحكم إلا للفقهاء العدول الأتقياء، كما يصفهم في أدبياته، ويعرفون بحيازتهم هذه الصفات حصراً، وينبغي أن يكونوا ممن يحوزون رتبة “مرجعاً دينياً”، كما حظر الدستور على المسلمين السنّة، وكذا الأقليات العرقية الشيعية، حقّ الترشح وتولي منصب رئاسة الدولة، وذلك بحسب نص المادة 115، والأخيرة، تشترط في رئيس الدولة أن يكون مؤمناً بمبادئ الثورة الإيرانية ومعتنقاً للمذهب الرسمي للبلاد؛ حيث فرضت التشيع، كمذهب طائفي ديني، وجنسية الرئيس المنحدر من أصل إيراني.

وفي ظلّ تأميم المجال العام والسيطرة الإعلامية والثقافية التي تفرض خطابها القمعي على المجتمع الإيراني، فقد حدا هذا الأمر بالباحثة المصرية، في مركز “الأهرام” للدراسات السياسية والإستراتيجية، رانيا مكرم، بوصف هذا النموذج بـ “الأمن الثقافي”، الذي ابتكره الإيرانيون، بهدف توظيف عداءاته الخارجية بغية تكريس قبضته على الداخل، وتحقيق التفاف شعبي حوله، ومن ثم، تخوين أيّ طرف معارض للنظام وسياساته، فضلاً عن فرض حصار ثقافي على المجتمع، ورقابة متشددة على كلّ ما من شأنه التأثير على الهوية الفارسية للبلاد، بصفة عامة، كما يتيح له بالضرورة استخدام القمع التقلدي، من جانب الأجهزة واليمليشيات المؤدلجة التي تدين بالولاء المطلق للنظام.

نقلا عن حفريات

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى