سياسة

الحقائق الغائبة عن ثورات مصر


إذا كانت أخبار “الكورونا” لا تزال تشغل المكانة الأولى من الاهتمام الإعلامي العالمي لأسباب معلومة.

وإذا كانت الإدارة الأمريكية الجديدة لا تزال تلقى الفحص والتمحيص من عيون العالم؛ فإن ما سمي “الربيع العربي” أصبح بعد عشر سنوات من الحدوث مركزا للمراجعة والتذكر. وللأسف فإن الإعلام الغربي ومراكز البحوث في أوروبا وأمريكا الشمالية باتت لديها قصة بسيطة وبالغة التشوية عما حدث خلال الشهور التي بدأت في تونس ثم انتهت في الكثير من العواصم العربية باعتبارها أحداثا فارقة في تاريخ المنطقة والعالم.

القصة تبدأ بأن ما كان حادثا في المنطقة العربية كان في حقيقته تكرارا لموجة عالمية بدأت في شرق أوروبا وانتهت ليس فقط بسقوط حائط برلين، وإنما بسقوط الاتحاد السوفييتي كله، ومن بعده نهاية الحرب الباردة كلها. ما حدث في الدول العربية ما بين نهاية عام ٢٠١٠ وطوال عام ٢٠١١، واستمرت آثاره وتفاعلاته حتى عام ٢٠١٣ لم يكن له علاقة لا بالحرب الباردة، ولا نظم الحكم الاشتراكية التي انضوت تحت رداء الاتحاد السوفييتي.

في الحقيقة فإن ثلاثة موجات من التغيير جرت في المنطقة: التخلص من قادة سلطويين لم يكن أحد يعتقد بإمكانية خروجهم من السلطة؛ وبعد فترة قصيرة أتت سيطرة الإخوان المسلمين وجماعات راديكالية أخرى على العملية السياسية؛ ثم في النهاية جاءت بداية التخلص من الإخوان وحلفائهم كما حدث في مصر، أو تم تقليص قوتهم لصالح قوى أخرى كما حدث في تونس وليبيا واليمن بسبب فشلهم في إقناع الرأي العام بقدرتهم على حكم بلادهم. لقد كشفت القصة الثورية عن مشاهد جديدة لم يكن ممكنا لأحد أن يتنبأ بها وسط العواطف الساخنة والرومانسية للثوار في ميدان التحرير في القاهرة، وميادين أخرى مماثلة. كان الثمن ببساطة مرتفعا، بينما كان العائد قليلا.

كان الكثير من الكذب مباشرا، فلم يكن بين الثوار الأوائل، أو الشباب الذين امتلكوا الثورة لثلاثة أيام فقط في القاهرة، من هو من أنصار الديمقراطية؛ فهم لم يقوموا فقط بتسليم الميدان لحركة الإخوان المسلمين الإرهابية الرجعية؛ وإنما فضلا عن ذلك فإنه في ساعة صنع الدستور صنعوا دستورا يماثل الدستور الإيراني، وعندما حلت ساعة الانتخابات فضل هؤلاء الثورة ضد “النظام” حتى بعد سقوطه السابق بدلا من الدخول في المنافسة السياسية تاركين الساحة للإخوان. وعندما استقر الأمر للإخوان لم يتوانى كثيرون من “الثوار” من التحالف فيما عرف باتفاق “فيرمونت” مع قيادة الإخوان التي لم يكن لها في الديمقراطية والليبرالية والتسامح لا نصيب ولا حظ.

تاريخ الإخوان مع العنف رصدته كتب وأوراق بحثية كثيرة، ولكنه كان أيضا مشهودا بشدة منذ لحظة انتشار أعضائه في ميدان التحرير في القاهرة، والميادين الأخرى في محافظات مختلفة، وكان ذلك بقوة السلاح والتنظيم والمال، وظهر ذلك بكل عنفه ساعة اقتحام السجون التي أطلقت ليس فقط الإخوان وإنما كان معهم كافة التنظيمات الإرهابية المعروفة التي تمكن الأمن المصري من التحفظ عليهم في فترات سابقة.

ومرة أخرى كانت الحقائق الغائبة بلا حصر، فبداية التغيير الثاني في مصر بدأت بفشل الإخوان المسلمين في إدارة الدولة المصرية، وكان الفشل ذريعا ليس فقط بما انكشف عن دورهم في استغلال الثورة الأولى وإنما أكثر من ذلك أنهم ساروا مسيرتهم الفاشية في حصار المحكمة الدستورية العليا، ومعها مدينة الإنتاج الإعلامي، وترويع الشارع المصري تحت راية الدين والدين منهم براء. والعجيب أنهم بينما كانت المعارضة لنظام الإخوان تتبع طريقا سلميا بالمطالبة بانتخابات جديدة عن طريق جمع التوقيعات الشعبية، فإن الإخوان بدؤوا العنف من خلال احتلال ميادين القاهرة اعتبارا من يوم ٢١ يونيو ٢٠١٣، أي قبل تسعة أيام من موعد الثورة الشعبية الكبرى في ٣٠ يونيو. مثل هذا التاريخ غير موجود في كل من قص عن الثورة في مصر، ولا يوجد إدراك أن القوات المسلحة المصرية التي تقوم على التجنيد من جميع طوائف الشعب، ولا يستند ضباطها لا لطائفة اجتماعية، ولا لأصحاب دم من أي نوع؛ لم يكن أمامها بد من التدخل للدفاع عن شعب في مواجهة تنظيم إرهابي مسلح.

استمر الإخوان في ميداني “رابعة” في القاهرة، و”النهضة” في الجيزة ٥٤ يوما كاملة، تشل فيها العاصمة، وتحرض وتدعوا إلى العنف مع التغطية الكاملة من قناة “الجزيرة” على مدار الساعة. وعندما طلبت السلطات المصرية فض الاعتصام في ١٤ أغسطس، سقط ستة شهداء من ضباط وجنود الشرطة المصرية، وبرصاص جاء من داخل الاعتصام ومن على أسطح الأبنية المحيطة بالميدان.

هذه الحقائق عما حدث في مصر غائبة تماما على التغطيات الغربية المختلفة عما جرى، وهي التغطيات التي بات أهم ما يميزها مخالفة الحقائق وإنما تزييفها. ويحدث ذلك بابتداع أرقام للضحايا يعطيها الإخوان لمنظمة “هيومان رايتس واتش” وبعد أن تذيعها هذه المنظمة دون دليل ولا مرجع، يبدأ الإخوان في ذكرها باعتبارها قادمة من تنظيم غربي محايد. وهكذا تخلق مرجعية لا أساس لها وتستمر على هذا المنوال فيما يخص ما جاء بعد ذلك من حقيقة أن ثورة يونيو لم تكتف بالإطاحة بنظام الإخوان الفاشي والمتخلف، وإنما كان لديها مشروع إصلاحي طموح. الحقائق الغائبة عن التطورات الجارية في مصر ودول عربية أخرى تحتاج تناولا آخر، ولكم ما يهمنا هنا هو إن السياسة، مثلها مثل التاريخ، تتطور بأشكال مختلفة ومعقدة؛ فالأمم، والدول، والمجتمعات، أكثر تعقيدا مما يمكن تصوره، ولا توجد نماذج يمكنها أن تناسب كل أشكال التحول التاريخي. ولعل حالات دول ما سمي “الربيع العربي” تشهد على هذا القدر من التنوع، فالسنوات العشر السابقة شهدت أنماطا من السلوك السياسي التي جعلت “الربيع” عواصف رملية، وصيفا ساخنا، وشتاء باردا. وكان أهم هذه الأنماط التي تغيب في حقائقها عن الدراسات الغربية كان التحول إلى العنف، وأحيانا العنف المميت الذي يهدد وجود الأمم والدول. وكان ذلك مناقضا لبدايات الثورات التي رفعت شعار “سلمية”، والذي خلق حالة مبكرة من التفاؤل حول إجراء التحولات في الدولة بالطرق السلمية وفي اتجاه الديمقراطية. كل ذلك تحول إلى قدر كبير من التشاؤم بعد أن أخذت الدماء في النزيف ابتداء من ميدان التحرير وحتى ميادين الثورة الأخرى في دول عربية حينما بدأت المظاهرات والإضرابات والاعتصامات تتسلح بالعصي والأحجار وزجاجات المولوتوف، وتبعتها الرصاصات والمتفجرات. وسرعان ما أصبح العنف طائفيا، وارتفعت أرقام الضحايا من العشرات إلى المئات، حتى تجاوزت في بلد واحد هو سوريا ٥٠٠ ألف قتيل، و١٤ مليونا من النازحين واللاجئين.

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى