الجزيرة تدعي البحث عن الحقيقة بملف الإخوان.. لكن ما أخفته كان أعظم
تطرق البرنامج المثير للجدل “ما خفي أعظم” والذي تقدمه قناة الجزيرة بحلقته الأخيرة لمداهمات الإخوان بأربع ولايات نمساوية أواخر 2020. حيث لم يكلف مقدم البرنامج، الإعلامي الفلسطيني تامر المسحال، نفسه عناء التحري الجيد لكشف الحقيقة الكاملة. فقد كان طوال الحلقة يحاول سحب خطين متوازيين وتسويقهما على أنهما الحقيقة.
أين منطق البرنامج؟
وتحدث المسحال أمام مقر الادعاء العام النمساوي عن التقدم الذي يسعى إليه الادعاء بخصوص تحقيقات جماعات الإخوان. مدعيا تخطي الامر من البعد القانوني إلى السياسي.
وقد تغافل البرنامج على أن الادعاء العام الذي يحقق بملف الإخوان بالنمسا، هو من حرّك ملف اتهام كورتس بالفساد. كما أمر بمداهمة مقر المستشارية منذ سنوات، ودفع السياسي ذو الشعبية الكبيرة بالبلاد للانسحاب من السياسة أواخر 2021. فكيف إذن يسيس الأخير عمل الأول؟
تجسيد دور الضحية
وأعادت الحلقة نسج ما تعود عليه الإخوان منذ نشأته، حيث جسد الضيوف دور الضحايا بامتياز، وتبادل البكاء والاستفهام والترويع والاضطهاد.
فقد أجهش العطار، أحد المشتبه بهم، بالبكاء، واصفا مداهمات الشرطة ضد أهداف وعناصر الإخوان بأنها جريمة وإرهاب. والتقط البرنامج الخيط وادّعى أن المداهمات ألقت بظلالها على واقع المسلمين في النمسا.
وقد إستمر البرنامج طوال الدقائق الأولى على هذا الحال. ضيوف يلعبون دور الضحية، ومذيع يزيل كثيرا من المسافات الفاصلة بين الإخوان والجالية المسلمة.
وتكشف العديد من التفاصيل سواء الواردة بالحلقة أم التي أُسقطت عمدا، مقدرا التضليل الذي هدف البرنامج بيعه لمشاهديه. ثم التغني بوصول متابعي الحلقة ثلاثة ملايين شخص.
رابط وهمي
ولقد قام البرنامج بالربط بين هجوم فيينا الإرهابي الذي حدث ب 2 نوفمبر 2020، ومداهمات الإخوان التي جاءت بعده بأسبوع. وذلك من أجل إيهام الجمهور بأن الحكومة النمساوية حاولت تقديم كبش فداء سريع. أو بغية إظهار أنها تعمل بقوة على مكافحة الإرهاب الذي ضرب البلاد حينها.
وعرض البرنامج وثيقة يعود تاريخها ل 16 مارس 2020، أظهرت كمية التناقض بهاته الحلقة. فقد شملت الوثيقة توجيها من الاستخبارات الداخلية بالنمسا باختراق حسابات التواصل الاجتماعي الخاصة بالمشتبه بهم في قضية الإخوان.
وقد قال العطار، أن هاتفه كان مراقبا طيلة 5 أشهر قبل تاريخ المداهمات، ما ينسف ربط عملية الإخوان بهجوم فيينا الإرهابي نسفا كاملا.
كما قال المستشار كارل نيهامر بيوم العملية، إن التجهيز لها تطلب عاما ونصف في أروقة سلطات إنفاذ القانون. وبدأت مرحلة الإعداد بعهد الحكومة السابقة التي لم يكن الرجل أحد أعضائها.
قصة الإمام والسمسار
ومن المدهش بحديث العطار، هو قول إمام مسجد بالنمسا، أن السلطات استندت خلال التحقيقات ضده لمكالمة هاتفية مع سمسار قروض. حيث يتساءل المشتبه به عن إمكانية الحصول على قرض من بنك النمسا الشهير لشراء بيت، كقرينة.
وتعجّب العطار، من وقوف السلطات عند هذه النقطة، رغم أنها تثير كثيرا من الجدل. فإذا اعتبرنا أن الرجل رغب بشراء بيت عادي جدا بـ 700 ألف يورو بفيينا، فإنه سيقوم بدفع 2600 يورو كقسط شهري.
الشيء الذي يخلق جدلا واسعا. فكيف لرجل أن يدفع مبلغا أكبر من متوسط الدخل للعاملين في مجاله “2000 يورو شهريا”.
خبير من الحاشية
ويأتي ما هو أكثر جدلا، حيث استعان البرنامج بكونويكر خبير نمساوي قانوني مستقل ومسؤول سابق بوزارة نمساوية. حيث كان لحديثه حيزا كبيرا بالحلقة، لاسيما كلامه عن عجز الادعاء العام عن تقديم أدلة بقضية الإخوان.
لكن ما خفي كان أعظم، فمنذ بداية قضية مداهمات الإخوان أواخر 2020، أعلن كونويكر تأييده للأكاديمي أهم المشتبه بهم بالقضية.
ولا يمكن إظهاركونويكر بصورة المستقل، حيث يعد كاتب شريك لحافظ بعدة منشورات بالسنوات الماضية. أهمها كتيب «شاب، مسلم، نمساوي. 20 عاما من الشباب المسلم في ألمانيا”. تناولت تجربة منظمة الشباب المسلم المحسوبة على الإخوان وشارك حافظ نفسه في تأسيسها.
وبخلاف صلته بأحد المشتبه وانحيازه المسبق، فإن حديثه عن عجر الادعاء العام عن تقديم أدلة إدانة للآن غير منطقي. فهل يعقل أن يقدم إدعاء عام، أدلة إدانة بقضية قبل أنه يكمل فحص ودراسة ملفاتها وأوراقها المتعددة.
وفي ظل تتبع تناقضات حلقة “ما خفي أعظم”، وحسب ما جاء في شبكة “العين الإخبارية” فقد تواصلت مع الدكتور كروشل، نائب رئيس المكتب الإعلامي بالادعاء العام بجراتس. بغية الوقوف على نقطة انتهاء التحقيق وعرض أدلة إدانة بالقضية وتحويلها للمحكمة.
فرد كروشل بأن فريق التحقيق جمع قرابة 200 تيرابايت من البيانات التي ماتزال قيد التقييم للآن. لافتا أن “عمليات التقييم هذه شخصية ومادية، وتتطلب وقتا طويلا ويرجع ذلك لضرورة ترجمة الكثير من النصوص من العربية”.
وأكد المسؤول الإعلامي استمرارية التحقيقات بملف الإخوان ومواصلة الادعاء بتقييم العدد الهائل من البيانات، وترجمة النصوص العربية.
تزييف الترجمة
تعمّد البرنامج تزييف مضمون وثيقة صادرة عن الاستخبارات الداخلية. حيث ذكر أنها صورت اجتماعا يرفع صورة رابعة على أنه يحوي بالنازية ويرفع المشاركون فيه تحية هتلر، وتقديمه بأدلة المحاكمة.
لكن الحقيقة عكس ذلك، حيث تفيد الوثيقة بتسلم الاستخبارات إفادة باجتماع يرفع فيه المشاركون تحية شبيهة لتحية هتلر عام 2014. مضيفة “لكن بعدما تحققت الاستخبارات، توضح انهم من الإخوان ويرفعون تحية رابعة” المرتبطة بالجماعة.
قضية السلاح
وعند الدقيقة 24 و50 ثانية، من وقت البرنامج علل أيمن مراد أهم المشتبه بهم، امتلاكه لسلاح جاء ذكره بأوراق القضية. حيث أكد أنه اشتراه بعد أن تم إعلامه من السلطات النمساوية بأنه مهدد بالقتل.
لكن حديثه لا يتماشى مع الإجراءات القانونية المعتمدة بالنمسا مع المهددين بأي شكل من أشكال الاعتداء. حيث يوجد خياران أمام المهدد فإما يغير مكان إقامته أو توفرله الشرطة الحماية لا أن يقتنى سلاحا.
أكاذيب مستمرة
وقام البرنامج بإسناد كلام للمستشار نيهامر لم يقله. حيث نقل عن وزير الداخلية النمساوي قوله أن الشرطة حجزت 25 مليون يورو نقدا. وتوضح لاحقا أن المبلغ النقدي يتراوح بين 200 و400 ألف يورو، والباقي قيمة الأصول.
لكن لم يقل نيهامرهذا أبدا. بل قال إن السلطات حجزت 25 مليون يورو (أصول)، فيما صادرت 100 ألف يورو في صورة مبلغ نقدي خلال المداهمات.
سقوط القناع
وانكشف الوجه الحقيقي لبرنامج الجزيرة بالدقيقة الـ 43. حيث تناول ورقة بحثية أعدها الباحث الأمريكي، لورينزو، عن الإخوان بالنمسا، على أنها أساس التحقيقات الجارية ضد الجماعة. وأضاف بأنه تمت الدارسة نتيجة ضغوط من الحكومة النمساوية اليمينية وحلفاء عرب.
بل إن أنس الشقفة الذي أتهم بأنه قائد الإخوان بالنمسا، سرّع وتيرة التزييف . حيث قال لمقدم البرنامج إن فيدينو لم تكن تربطه صلة بالدولة النمساوية عندما كتب هذه الدراسة. وإستفسر عمن دفع الباحث الذي يشتغل على قضية الإرهاب والإسلام السياسي منذ 15 عاما، إلى كتابة هذه الورقة؟
لكن غلاف الدراسة المنشورة على مواقع حكومية نمساوية، يؤكد زيف البرنامج والضيف.
حيث يكشف الغلاف أن فيدينو أعدّ الدراسة بالتعاون مع 3 مؤسسات حكومية نمساوية، هي جامعة فيينا، وهيئة حماية الدستور وصندوق الاندماج. مما يعني أنه كان له علاقة متينة بالدولة النمساوية.
والشيء الأكثر غرابة هو إصرار مقدم البرنامج على إدراج اسم الإمارات كدولة في جانب هي ليست طرفا فيه. وذلك عندما أراد التعليل على الدور الأجنبي بدراسة فيدينو باستضافة الباحث النمساوي شميدينغر.
فقد ادعى هذا الأخير طلب مؤسسة إماراتية منه، يتوضح من الحديث أنها بحثية، القيام بدراسة مقابل المال. كأي مؤسسة بحثية بالعالم، تستكتب الباحثين سواء بعقود عمل طويلة، أوعلى هيئة تعاون حر حسب أعراف العمل البحثي المعروفة.
وأكد الباحث هذه النظرية فقال إن هذا الاستكتاب “لم يكن أمرا غير قانوني. وقد كان المسحال بكل مرة يقحم اسم دولة الإمارات، بحديث الباحث مرة بشكل غير مباشر، وأخرى بشكل مباشر حين ذكرها بالاسم.
مظلة الإخوان
وقال البرنامج في ظل عرض أدلته المزيفة، إن النمسا تتهم منظمات كاتحاد المنظمات الإسلامية بأوروبا. لكنه لم يكلف نفسه عناء البحث ليعرف أن أهم المؤسسات الحكومية والبحثية الأوروبية، تصف هذه المنظمة بأنها مظلة الجماعة بأوروبا.
ورغم هذا التقاعس بالبحث والترجمة الذي توضح طيلة دقائق الحلقة، بيد أن المضحك بالأمر أنه ادّعى كذبا أخ وثائق مسربة تدعم موقفه. وثائق كان معظمها جزءا من ملف التحقيقات التي سمحت السلطات لدفاع جميع المشتبه بهم بأخذ نسخة منها.
كما كانت الوثيقة التي تفاخر بها البرنامج بالدقيقة 48، مذكرة أرسلها وزير الداخلية للبرلمان لفبراير 2020.
“ما أُسقط كان أعظم“
عقب المقدار الهائل من التزييف والتضليل والأخطاء ببرنامج المسحال، تصل “العين الإخبارية” لأهم جانب وهو عنوان برنامجه “ما خفي كان أعظم”. والذي يمكن استبداله ب “ما تجاهله كان أعظم”. فالبرنامج تعامى عن جوانب رئيسية بقضية تحقيقات الإخوان لا تخدم الرسالة التي أراد توجيهها.
أهما كانت شهادة قدمها عضو مهم في الإخوان بالنمسا ابتعد عن الجماعة بالسنوات القليلة الماضية، لسلطات التحقيق.
أدلى الرجل الذي قدمته الصحف النمساوية باسم مستعار “أحمد. م”، بشهادة رسمية شاملة عن هياكل وأنشطة الإخوان بالنمسا. حيث تعتبر من ضمن الأسس التي يرتكز عليها التحقيق بأنشطة الجماعة بالنمسا.
وتحفظت السلطات النمساوية على هوية الشاهد بملفات القضية، قبل إتاحتها لمحامي المشتبه بهم مؤخرا. الشي الذي تسبب باعتداء على الشاهد امام منزله من طرف بعض العاملين بالقيادات الإخوانية.
لكن البرنامج أهمل هذه الشهادة، وواقعة بلطجة الإخوان بشوارع الأُنس بفيينا الهادئة، وتحقيقات الشرطة التي أعقبت الاعتداء.
كما تغافل عن ذكر رابطة الثقافة؛ رغم أنها المنظمة الأهم بدائرة الإخوان والتحقيقات. وذلك لوجود روابط مكشوفة بينها وبين الإخوان واستضافتها العديد من القيادات المصرية بفعاليات سابقة.
وتعامى البرنامج أيضا عن الإشارة لمسجد النور بجراتس والذي انتشرت صورة لجندي نمساوي على بوابته شارك بالعملية، يوم المداهمات. وثبوت أيضا علاقته بالإخوان عبر أيمن علي الذي كان إمامه سابقا، قبل أن يصبح مستشارا لمحمد مرسي.
هزيمة مزلزلة
شدد برنامج المسحال على لجوء الإخوان للقضاء واللعب على الفجوات بغية عرقلة عمل الادعاء العام. واحتفى بحصولها على بعض الأحكام من محكمة جراتس ضد التحقيقات.
لكن عملت “العين الإخبارية” على نيل رد من نائب رئيس المكتب الإعلامي بمكتب الادعاء العام بجراتس. حيث قال ” قررت محكمة جراتس الإقليمية وقف التحقيقات ضد مشتبه بهم بالقضية، كحكم ابتدائي قابل للطعن.
وأضاف تدرس محكمة جراتس الإقليمية العليا القضية بالوقت الحالي. كما أن عددا آخر من المشتبه بهم التمسوا وقف التحقيق أمام القضاء، لكنها لا تزال معلقة”.
وتجلى تجاهل البرنامج بهاته النقطة للحقائق عمدا. فرغم مناقشة ضيوفه بأكثر من جانب، مسألة انحياز الخبراء الذي قدموا آراء اعتمد عليها الادعاء العام في التحقيقات. إلا أن البرنامج تجاهل فشل محاولات الإخوان في الإطاحة بالخبيرين عبر المسار القضائي.
قضت محكمة جراتس قبل أشهر برفض شكاوى الإخوان ضد الخبيرين واتهامات الانحياز الموجهة لهما. وتأكيد دورهما بالتحقيقات، والاستعانة بهما أمام المحكمة بنفس القضية. في هزيمة قضائية مزلزلة للإخوان تجاهلها البرنامج، ليتضح أن ما أسقطه كان أعظم.
وعقب كل هذه السقطات، لم يكن هناك مفر من كشف الحقيقة، وشد خيوط ما تجاهلته الجزيرة عمدا. فالأمر كله باختصار “ما تجاهلته الجزيرة كان أعظم”.