التكلفة المرتفعة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان
القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي جو بايدن بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان بشكل كامل.
بحلول الحادي عشر من سبتمبر المقبل ينطوي على تكلفة مرتفعة للغاية، ليس فقط بالنسبة للأمن والاستقرار في أفغانستان، وإنما أيضاً للأمن الإقليمي والدولي على حد سواء، خاصة أن هذا القرار يأتي في ظل استمرار الوضع الهش في البلاد، وتنامي نفوذ حركة طالبان وسيطرتها على أجزاء كبيرة من البلاد.
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والذي يأتي بعد عقدين من هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 جاء دون أي شروط مسبقة، ودون اتخاذ الترتيبات التي تضمن استباب الأمن والاستقرار في البلاد، والمضي قدماً في استكمال عملية إعادة بناء الدولة بمؤسساتها المختلفة، وهذا هو الخطر الحقيقي الذي يهدد أفغانستان في مرحلة ما بعد الانسحاب، فتجارب التاريخ تشير بوضوح إلى أن هذه المرحلة تتطلب قوات كافية لحفظ الأمن والاستقرار، والتصدي لأية تحديات أو مخاطر ناشئة أو محتملة، فضلاً عن التوافق الدولي على خارطة طريق واضحة لإعادة البناء والإعمار، وإحداث تنمية حقيقية تستجيب لتطلعات الشعب الأفغاني وحقه في التنمية والأمن والاستقرار.
من الواضح أن قرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان جاء ضمن توجه الواقعية الجديدة للسياسة الأمريكية الذي تبلور في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتسير على نهجه إدارة الرئيس جو بايدن، حيث تدرك الولايات المتحدة أنه آن الأوان، أكثر من أي وقت مضى، العمل على إنهاء هذه الحرب الصعبة التي كلفتها تريليونات الدولارات، وراح ضحيتها أكثر من 2300 أمريكي وإصابة أكثر من 20 ألفاً، بالإضافة لمقتل وإصابة 100 ألف أفغاني على مدار السنوات الماضية، ليس هذا وحسب، بل إنها أثارت تساؤلات جوهرية حول قوة الجيش الأمريكي وجاهزيته على خوض الحروب اللامتماثلة مع حركات متمردة تعتمد على أسلوب حرب العصابات في استنزاف قوة الخصم، وهذا التوجه تمت الإشارة إليه بشكل واضح في الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأمريكي الذي صدر في شهر مارس الماضي، عن إدارة بايدن، والذي أكد بصورة قاطعة ضرورة “إنهاء حالة الحروب المستمرة للأبد”، والتي كلّفت آلاف الأرواح وتريليونات الدولارات، وفي مقدمتها الحرب في أفغانستان، والعمل على عدم عودتها مرة ثانية لتصبح ملاذاً آمناً للإرهابيين وقاعدة لشن هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قدمت العديد من التبريرات لخطوة الانسحاب الكامل من أفغانستان، وأنها لن تسمح بتحولها مرة ثانية إلى بؤرة للجماعات والتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود مثل القاعدة وداعش، إلا أن الواقع يؤكد أن قرار الانسحاب جاء للخروج من المستنقع الأفغاني الصعب، وكأن التاريخ يعيد نفسه، حينما انسحب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان عام 1989 بعد عشر سنوات من احتلالها، نتيجة المقاومة الأفغانية التي أجبرته على الانسحاب وترك البلاد، التي تحولت بعد سنوات قليلة إلى بؤرة للقاعدة والتنظيمات الإرهابية.
الوضع الراهن في أفغانستان، وفقاً للعديد من التقديرات الاستخباراتية والأمنية، لا يدعو إلى الاطمئنان، ولا يشير بوضوح إلى أن الحكومة الأفغانية قادرة على إدارة مرحلة ما بعد الانسحاب الصعبة، ولا التعامل مع تحدياتها المختلفة، الأمنية والسياسية والاقتصادية، خاصة أن حركة طالبان تنظر إلى هذا الانسحاب على أنه بمنزلة نصر استراتيجي وخطوة مهمة من شأنها تعزيز نفوذها وسيطرتها على أفغانستان، كما كان الوضع قبل عام 2001، وهذا هو المأزق الحقيقي الذي يواجه البلاد حالياً ومستقبلاً، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار حقيقية عدم جاهزية الجيش الأفغاني وقدرته على مواجهة طالبان، التي تزداد قوة يوماً بعد الآخر، حيث تدعي أنها تسيطر على أكثر من نصف أفغانستان، كما تتحكم في الممرات والطرق الاستراتيجية، ولهذا فليس من المستبعد أن تسيطر بشكل كامل على أفغانستان بعد الانسحاب في حال فشل المفاوضات السياسية التي تستهدف تسوية الأزمة الأفغانية، ووضع البلاد على طريق البناء والأمن والاستقرار.
اللافت أيضاً أن هناك معارضة داخل أوساط الكونجرس الأمريكي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لقرار الانسحاب الكامل من أفغانستان، بدعوى أن ذلك قد يعيد البلاد إلى المربع رقم واحد، ويضعها أمام تحديات ومخاطر غير مسبوقة، كما حدث في العراق حينما تم سحب الجزء الأكبر من القوات الأمريكية منه عام 2011، وهو الأمر الذي مهد لظهور تنظيم داعش وتنامي قوته إلى أن سيطر على أجزاء كبيرة من العراق عام 2014، ما دفع الولايات المتحدة مرة أخرى إلى إعادة قواتها لمحاربة داعش بالتحالف مع العديد من دول المنطقة والعالم، ولهذا ليس من المستبعد أن تتكرر تجربة العراق في أفغانستان في مرحلة ما بعد الانسحاب، خاصة أن حركة طالبان ليست وحدها التي تتنافس على السيطرة والنفوذ في أفغانستان، وإنما هناك تنظيمات وحركات إرهابية أخرى تزاحمها في هذا الشأن، لعل أبرزها ” ولاية خراسان”، التي تعد من أقوى فروع تنظيم “داعش” في المنطقة، وتسعى إلى تحويل أفغانستان إلى مركز للتنظيم بوجه عام بعد انحسار نفوذه في العراق وسوريا.
الانسحاب الأمريكي يضع أفغانستان أمام مرحلة فارقة في تاريخها تتسم بالضبابية، خاصة في ظل غياب أفق واضح لمسار السلام بين الحكومة وحركة طالبان، وعدم قدرة الحكومة على بسط سيطرتها على معظم المناطق، وتنامي الولاءات القبلية والعرقية والمذهبية، واستمرار الصراع الإقليمي على النفوذ في البلاد، كلها معطيات تشير إلى أن تكلفة هذا الانسحاب ربما تكون مرتفعة على الصعد كافة، الأمنية والسياسية والاقتصادية، ولن تقتصر فقط على أفغانستان، وإنما ستمتد إلى محيطيها الإقليمي والدولي، بالنظر لموقعها الجيوسياسي الذي يمثل أهمية كبرى للعالم، فهي تقع في وسط المناطق الآسيوية الرئيسية مثل آسيا الوسطى وجنوب القارة وغربها والشرق الأقصى، كما أن موقعها الجغرافي يجعلها ممر ترانزيت مهماً لصادرات النفط والغاز الطبيعي من وسط آسيا إلى بحر العرب، ولهذا من الطبيعي أن ينعكس الوضع فيها على هذه المناطق.