لا شكَّ في أن التضخم يُعَد من أهم المشكلات الاقتصادية، التي تكون دائمًا حاضرة في أجندة أعمال متخذي القرارات وصانعي السياسات.
ولعل أحد أهمّ أسباب زيادة معدل التضخم هو زيادة عرض النقود، الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات، ومن ثَمّ زيادة نسبة التضخم.
وكما يقول “فريدمان” الحائز جائزةَ نوبل في الاقتصاد، فإن “التضخم دائمًا وأبدًا ظاهرة نقدية”، ويقول أيضًا: “كلما كان التضخم في أي بلد عاليَ المعدل لمدَّة زمنية مستمرة، يعني ذلك أن النمو في عرض النقود أيضًا عالٍ”، ولذلك فإن النمو المستمر في عرض النقود هو القوة الدافعة إلى ارتفاع معدل التضخم.
إن أهم وظائف النقود هي الحفاظ على القوة الشرائية، وبالرغم من أنها أكثر الأصول سيولةً، فإنها عُرضة لأن تفقد قيمتها في مُدد التضخم، والارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات، الذي يؤثر في الأفراد ومؤسسات الأعمال والاقتصاد القومي عامَّةً.
ومع أن التضخم له تأثير ضئيل في القيم الطويلة المدى لمعظم المتغيرات الحقيقية، مثل مخرجات الاقتصاد الكلي، والاستهلاك، وسعر الفائدة الحقيقي، فإن هناك آثارًا أخرى مرتبطة بالرفاهية.
وكذلك يمكن أن يكون التضخم ناتجًا من الحظر على تصدير النفط، الذي يرفع الأسعار، كما يمكن أن ينتج من سياسات الدعم الحكومي المتعلقة بزيادة الأجور ومعالجة البطالة، أو ما يُسمّى “تضخم رفع التكلفة”، إضافةً إلى سعي بعض المؤسسات إلى رفع أسعار السلع والخدمات التي تبيعها.
وقد ينتج التضخم من وضع أهداف لمعالجة البطالة أقلّ من الأهداف الحقيقية، ما يؤدي إلى زيادة مطّردة في عرض النقود باستخدام أدوات السياسة النقدية، تؤدي في نهاية الأمر إلى التضخم بسبب زيادة منحنى الطلب الكلي، أو ما يُسمّى “الطلب التضخمي الساحب”.
إن التضخم في أي مكان وزمان هو ظاهرة نقدية ترتبط بالسياسات النقدية المتخذة في كل بلد، ولا يمكن أن يحدُث دون وجود معدل عالٍ من النمو النقدي، إذ تلجأ الحكومات إلى زيادة الضرائب، وخاصة ضريبة الشركات والدخل الشخصي أو الاقتراض من السوق، لردم العجز في موازناتها، وقد تلجأ عند مواجهة عجوزات كبيرة ومستمرة إلى طباعة النقود، وبمصطلح آخر: زيادة عرض النقود، ما يعني زيادة الأسعار، وارتفاع معدل التضخم بوتيرة قوية.
وتحظى مؤشرات مثل: مؤشر أسعار المستهلك الذي يقيس أسعار السلع والخدمات، ومؤشر مصاريف الاستهلاك الذي يشمل السلع والخدمات المدعومة، بأهمية قصوى في قياس الاتجاه التضخمي في الاقتصاد، علمًا بأن تغيرات معدلات التضخم تعتمد على الظروف المحيطة بالاقتصاد، ولا سيَّما ارتفاع أسعار النفط، ومدى بطء أو سرعة تدفق السلع بوساطة سلاسل التوريد، والتكلفة المرتبطة بها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن سلوك المستهلك -ولا سيَّما بعد تخفيف الإجراءات الاحترازية في أثناء ذروة جائحة فيروس كورونا- في استخدام المدخرات للشراء وزيادة الطلب، إضافةً إلى أثر سياسات التحفيز عن طريق إصدارات السندات السيادية في أوروبا، وسياسة التيسير الكمّي في الولايات المتحدة الأمريكية، كل ذلك أدى إلى زيادة وتيرة صعود معدل التضخم، وما زاد الطين بلةً هو فرض عقوبات على روسيا، وخاصةً تصدير الغاز والنفط والسلع الاستهلاكية الأساسية الأخرى، نتيجة الحرب بينها وبين أوكرانيا.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية ارتفع مؤشر أسعار المستهلك إلى مستوى قياسي ناهز 7 في المئة، ونسبة التضخم إلى 8.6 في المئة بنهاية النصف الأول من العام الجاري “2022”، ما حدا بالبنك الفيدرالي إلى رفع سعر الفائدة على الإقراض، محاولةً منه لاستخدام أدوات السياسة النقدية، بهدف السيطرة على التضخم، وإبطاء الطلب المتزايد، بأسلوب متدرّج فيما يسمى “الهبوط الآمن”، ذلك أن رفع الفائدة المفاجئ والحاد سوف يؤدي إلى دخول الاقتصاد مرحلة الركود الاقتصادي.
ونظرًا إلى ارتباط عُملات دول الخليج بالدولار، فقد أعقبت ذلك زيادة بنسب متقاربة على الفائدة أعلنتها البنوك المركزية بهذه الدول، في حين أن معدلات التضخم فيها كانت مستقرة تقريبًا، وبلغت -على سبيل المثال- 2 في المئة بنهاية عام 2021 في دولة الإمارات العربية المتحدة، ولكنْ بسبب استمرار الحظر على النفط الروسي، وتعطُّل سلاسل توريد المواد الأساسية نتيجة الحرب الروسية-الأوكرانية، بدأ مؤشر أسعار المستهلك يصعد تدريجيًّا.
الخلاصة أن التضخم دائمًا، وفي كل مكان، ظاهرة نقدية، بمعنى أنه لا يمكن أن يحدُث دون ارتفاع معدل نمو النقود.
وتوجد أسباب عدَّة وراء ظهور السياسة النقدية التضخمية، ولكنَّ السببَيْن الأساسيَّيْن هما وجود عجوزات مستمرة في الموازنة، والتزام صانعي السياسات أهدافًا عالية ومُكلفة للدعم، مثل البطالة والتوظيف.
نقلا عن “مفكرو الإمارات”