التصعيد التركي في المتوسط إلى أين ؟
منذ اكتشاف كميات هائلة من الغاز في البحر الأبيض المتوسط، تواصل تركيا التصعيد في المتوسط، غير آبهة بالاتفاقيات الدولية، مرسلة المزيد من السفن للتنقيب عن الطاقة برفقة سفن حربية إلى شرقي المتوسط، متحدثة بلهجة التحدي مع أوروبا وعقوباتها الرمزية، طامحة إلى السيطرة على الطاقة وطرق إمدادها، ولعل آخر فصول هذا التصعيد توقيع اتفاقية بحرية مع حكومة السراج غير الشرعية في ليبيا.
والسؤال الأساسي هنا: “لماذا يصعد أردوغان على هذا النحو ويغامر بعلاقات بلاده مع أوروبا والعالم العربي؟”.
في الواقع، ثمة من يرى أن التحرك التركي في المتوسط بحثاً عن الطاقة جاء لجملة من الأسباب، لعل أهمها:
- إن تركيا وبعد عمليات البحث في مياهها الإقليمية لم تعثر على الطاقة، ولذلك وجدت في التوجه نحو قبرص مدخلاً لتأمين موارد مهمة من الطاقة.
- إن التحالفات الإقليمية والدولية التي تشكلت على وقع اكتشاف كميات هائلة من الطاقة في شرق المتوسط عزلت تركيا وجعلتها في موقع المحاصر.
- إن التحرك التركي جاء لفرض أمر واقع، هدفه دفع الدول المعنية إلى إشراك تركيا في هذه التحالفات، وجعلها ممراً لإمداد الطاقة من المتوسط إلى أوروبا
- إن تركيا أردوغان تطمح إلى المزيد من الهيمنة والسيطرة في المتوسط، وما الاتفاق الأخير مع السراج إلا تأكيد لمطامع تركية دفينة.
هذه الأسباب وغيرها دفعت أنقرة إلى اعتماد سياسة إرسال السفن للتنقيب عن الغاز والنفط في المياه الإقليمية لقبرص، واللافت أن أسماء السفن التي أرسلتها تركيا حملت معاني سياسية تاريخية، فالسفينة الأولى حملت اسم الفاتح نسبة إلى السلطان العثماني محمد الفاتح، والثانية حملت بربروس نسبة للجنرال العثماني خير الدين بربروس باشا، والثالثة حملت اسم يافوز أي الحازم، وهي جميعها أسماء تشكل استفزازاً للدول العربية والأوروبية، لا سيما اليونان بسبب الصراع التاريخي بينهما خلال عهد الدولة العثمانية.
التصعيد التركي يأتي خلافاً للقانون الدولي، إذ إن أنقرة لم توقع إلى الآن على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، التي دخلت حيز التنفيذ عام 1994، وحسب هذه الاتفاقية تمتد المياه الإقليمية لبلد ما 12 ميلاً في البحر، إلا أن المنطقه الاقتصادية الخالصة لذلك البلد، يمكن أن تمتد 200 ميل، حيث باستطاعته المطالبة بحقوق الصيد والتنقيب والحفر، وعندما تكون المسافة البحرية بين بلدين أقل من 424 ميلاً، عليهما تحديد خط فاصل متفق عليه بين منطقتيهما البحريتين، وتلحظ الاتفاقية حقوق الجزر البحرية كما هو حال قبرص، ولعل هذا ما يفسر سبب عدم توقيع تركيا الاتفاقية، وتطالب بدلاً من ذلك بحقوق استناداً إلى جرفها القاري، وتوقيع اتفاقية للجرف القاري مع جمهورية شمال قبرص التي لا يعترف بها أحد إلا أنقرة، بعد أن أعلنتها تركيا جمهورية مستقلة عقب غزوها لشمال قبرص عام 1974 بحجة حماية الأقلية التركية هناك، فيما السلوك التركي هذا يتنافض مع حقوق قبرص وفقاً للقانون الدولي، إذ إن العالم لا يعترف إلا بجمهورية قبرص اليونانية التي هي عضو في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني قانونياً الاعتراف بسيادتها على جميع أراضيها. وهذا الاعتراف الدولي ينزع عن تركيا الذرائع القانونية التي ترفعها في معركة الطاقة في البحر الأبيض المتوسط.
في الواقع، التحركات التركية في المتوسط تشكل بداية صدام مع العالم، إذ إنه كان سبباً في بلورة مواقف وتحالفات إقليمية ودولية في مواجهة التصعيد التركي، ولعل من أبرز التحركات التي جرت في هذا السياق:
- إعلان شركة إكسون موبيل الأمريكية في شباط/فبراير الماضي الدخول على خط التنقيب عن الغاز في شرقي المتوسط، وهو ما جعل من الولايات المتحدة لاعباً أساسياً في هذه المعركة، ولعل هذا ما يفسر النشاط الكبير الذي تبذله واشنطن على خط لبنان – إسرائيل، للتوصل إلى اتفاقيات نهائية بشأن التنقيب عن الطاقة في البحر.
- إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، الذي عقد مؤتمره الأول في مصر قبل أشهر، ويضم المنتدى كلاً من مصر وقبرص واليونان وإسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن وإيطاليا، فيما لم يشمل المنتدى تركيا في عضويته، وسط أنباء عن انضمام كل من فرنسا والولايات المتحدة في وقت قريب
- موافقة مصر على إقامة خط أنابيب للغاز تحت سطح البحر من حقل أفروديت في قبرص إلى المحطة المصرية لإسالة الغاز، ومن ثم تصديره إلى الخارج.
- توقيع سلسلة اتفاقيات بين مصر وقبرص واليونان على شكل تحالف إقليمي في مجال الطاقة بالمتوسط، واتفاقيات أخرى مماثلة بين قبرص وإسرائيل.
- تحرك أوروبي واضح لدعم قبرص في الصراع مع تركيا بشأن الطاقة في المتوسط، وقد تجلى هذا الأمر في العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على تركيا، ورغم أنها كانت عقوبات رمزية سياسياً ومالياً، فإنها شكلت رسالة سياسية قوية لتركيا بضرورة الوقوف عن نهج العسكرة في المتوسط واحترام سيادة قبرص وفقاً للقانون الدولي.
- لعل الأهم في هذه التطورات، هو قانون أمن الطاقة في المتوسط، الذي بحثه الكونجرس الأمريكي، ومن شأن إقراره رفع الحظر عن بيع السلاح لقبرص، وإنشاء مركز أمريكي دائم للطاقة في المتوسط، وهو ما سيشكل ضربة كبيرة للموقف التركي.
في الواقع، من الواضح أن المساعي التركية السابقة ليست سهلة التحقيق إن لم نقل مستحيلة، فتركيا تبدو في مواجهة تكتل إقليمي دولي ضخم، ويكاد إلى اليوم لا يوجد أي موقف عربي أو دولي مؤيد لتركيا في هذه المعركة، بل حتى روسيا الحليفة الجديدة لتركيا تبدو مستفيدة من هذا الأمر، وذلك تطلعاً إلى إبقاء تركيا تحت رحمتها في مجال الطاقة، حيث تعتمد الأخيرة على روسيا في تأمين 65 في المئة من حاجاتها للغاز.
وجاء رفض قبرص للمقترحات التي قدمتها جمهورية شمال قبرص بهذا الخصوص، وهي اقتراحات تركية بالأصل، لتزيد من صعوبة المهام أمام أنقرة، إذ تبدو الأخيرة أمام خيارين، فإما مواصلة سياسة العسكرة عبر فرض أمر واقع في شرقي المتوسط، وهو ما يفتح خيار المواجهة العسكرية لا سيما في ظل تفاقم الخلافات التركية – اليونانية، أو التراجع عن سياسة العسكرة والالتزام بالقانون الدولي الذي يلحظ السيادة الكاملة لقبرص، وهو ما يعني خسارة تركيا معركة الطاقة في شرقي المتوسط.
وأمام هذين الخيارين الصعبين، لا يبدو أن تركيا ستتراجع وإن أبدت مرونة في مراحل معينة لأسباب تكتيكية، وربما الهدف من وراء ذلك هو تعزيز سياسة العسكرة في قبرص في ظل الأنباء التي تتحدث عن بدء تركيا إقامة قاعدة عسكرية بحرية دائمة في شمال قبرص، وهو ما يرجح خيار التصعيد العسكري في منطقة شرقي المتوسط، التي تحولت إلى واحدة من أهم المناطق الجيوسياسية الحساسة لأمن العالم.