سياسة

التدخل الفرنسي في مالي: مَن نهب الذهب والماس؟


فتح حادث مقتل ثلاثة جنود من الجيش الفرنسي في مالي، ملفّ التدخّل الفرنسيّ في هذا البلد الأفريقي، بدعوى محاربة الإرهاب في دول الساحل، وجدّد التساؤلات حول جدوى التواجد الأجنبي في تلك المنطقة، الذي طال أمده دون استبشار نتائج إيجابية تدعو للتفاؤل، أو تنذر بقرب تحقيق الهدف، المتمثّل في القضاء على الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء.

وأعلنت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، التابعة لتنظيم القاعدة الإرهابي، مسؤوليتها عن مقتل ثلاثة جنود من الجيش الفرنسي في مالي، وبذلك يرتفع عدد قتلى القوّات الفرنسية إلى 50 شخصاً منذ عام 2013.

ويأتي هذا الحدث بالتزامن مع إعلان مصدر عسكري في الجيش المالي، مقتل  58 مدنياً في هجوم نفّذه مسلحون مجهولون، غرب النيجر، في وقت لم تحسم فيه النيجر نتائج انتخابات الرئاسة، الأولى من نوعها في البلاد.

مالي..الأهميّة الجيوسياسيّة

حتى وقت قريب، بدا أنّ دولة مالي لا تتمتع بقيمة جيوسياسية تذكر، لكنّ شمالها برز كملاذ للمتطرفين الإسلاميين، الذين عبروا الحدود من الجزائر، ثم أصبحوا يمثّلون تهديداً لدول مختلفة في غرب أفريقيا، وسرعان ما أصبحت إحدى الجماعات المتطرفة، المرتبطة بالقاعدة، قوية مالياً، جراء عمليات الخطف والاتّجار بالبشر، وهو ما جعل الشمال معقلاً للإرهابيين الإسلاميين، ما أثار مخاوف الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية.

 عام 2008؛ كان من ضحايا الاختطاف الدبلوماسيَّين الكنديَّين: روبرت فاولر، ولويس غواي، اللذين اختُطفا في النيجر، في كانون الأول (ديسمبر)، وتمّ احتجازهما كرهائن في شمال مالي لمدة 130 يوماً، على يد جماعة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

وبحسب مقال نشرته وكالة “رويترز”، عام 2013، فإنّه يمكن إرجاع جزء كبير من المشكلة إلى الحرب الليبية، عام 2011، تحديداً بعد هزيمة معمّر القذافي، حيث عاد الآلاف من المجندين الأفارقة إلى بلدانهم الأصلية، بما في ذلك مالي، بعد أن جلبوا ترسانة ضخمة من الأسلحة الثقيلة، منحت قوة جديدة لحركة التمرد في شمال البلاد، بقيادة الانفصاليين الطوارق والمتطرفين الإسلاميين.

في أوائل عام 2012؛ شنّ المتمردون هجوماً كبيراً على شمال مالي، وبحلول نيسان (أبريل) 2012، كانوا قد استولوا على المنطقة بأكملها، وهزموا الجيش النظامي للدولة، وبعد ذلك تمكّن المقاتلون الإسلاميون من تنحية الانفصاليين الطوارق جانباً، وانتهى الأمر بالسيطرة على المقاطعات والمدن الشمالية الرئيسة من قبل المسلحين الإسلاميين.

وبما أنّ مالي مستعمرة فرنسية سابقة، ويقيم فيها ثلاثة آلاف مواطن فرنسي، إضافة إلى آلاف آخرين يعيشون في البلدان المجاورة، خططت فرنسا لدعم تدخل عسكري، بقيادة أفريقية، في مالي.

وإدراكاً منها تماماً لإرث ما بعد الاستعمار، المتمثل في التدخّل المتكرّر في مستعمراتها السابقة، أرادت فرنسا السماح لدول غرب أفريقيا والجيش المالي بأخذ زمام المبادرة في الحملة العسكرية ضدّ المتمردين الشماليين، بموافقة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، لكنّ الدولة الفرنسية رأت أنّ القوة الأفريقية كانت بطيئة في الانتشار، فيما توقّع  المسؤولون وقتها أنّ الحملة العسكرية ضدّ المتمردين لن تبدأ إلّا في وقت متأخر، وكان هذا المدخل الفرنسي، لبسط نفوذها مرّة أخرى على شمال مالي.

الانقلابات العسكرية نقطة الضعف

تعدّ الانقلابات العسكرية الناجحة سمة من سمات الحكم في أفريقيا، وذلك منذ سنوات الاستقلال الأولى، ومالي ليست استثناءً بالتأكيد، حيث شهدت الدولة، التي كانت في السابق تجربة نادرة على الطريق الديمقراطي، أربعة انقلابات عسكرية ناجحة منذ استقلالها، نصفها في السنوات العشر الأخيرة فقط، حيث تمّت الإطاحة بأول رئيس لمالي، موديبو كيتا، في انقلاب عام 1968. ولقي الرئيس المالي الثاني، موسى تراوري، المصير نفسه، عام 1991.

وتبعت ذلك فترة من الاستقرار السياسي النسبي، مع الكثير من الآمال الديمقراطية، حتى تمّت الإطاحة بأماني توماني توري (المعروف باسم ATT)، أيضاً، عام 2012.

وكان آخر هذه الانقلابات ما حدث عام 2020، مع الرئيس إبراهيم كيتا، الذي تمّت إطاحته بنجاح كبير.

خلال زيارتها إلى باماكو، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، أعلنت وزيرة القوات المسلّحة الفرنسية، فلورانس بارلي، نجاح مهمّة عملية “برخان” التي أطلقتها الدولة الفرنسية للقضاء على الإرهابيين في منطقة الشمال، وبعد زيارة بارلي بأشهر، كان الانقلاب الأخير، الذي جعل تمديد فترة تواجد القوات الفرنسية أمراً لا بدّ منه، بالنسبة إلى الفرنسيين، الذي رأوا أنّ هذا الانقلاب يعدّ إشارة لضعف القوات الأمنية والعسكرية في مالي، وانعكاساً لهشاشة الدولة.

وكتب الكولونيل في البحرية الفرنسية، والأكاديمي المتخصص في الشؤون الإستراتيجية والعسكرية، ميشيل جويا، على مدوّنته مقالاً يلخّص رؤيته، مطلع كانون الثاني (يناير) الجاري، بصفته أحد المسؤولين عن العمليات العسكرية في دول الساحل، وذلك للإجابة عن سؤال؛ هل نالت فرنسا هدفها من هذه العمليات؟

ويمكن تلخيص رؤية جويا لسبع سنوات من العمليات القتالية، إلى حرب استنزاف، وفق وصفه، لكنّها لا تخفي الاعتراف بالجانب الاستعماري في هذه الحرب، الذي يعتبر أنّ الضغط على العدوّ هو الوسيلة الأنسب لتحقيق الهدف، وحتى مع وقوع خسائر في الأرواح من جانب القوّات الفرنسية، فإنّ هذا الأمر لا يقارَن بما يعانيه العدو من خسارات، لكن ثمّة نقطة أخرى يطرحها  جويا في تحليله؛ هي أنّ وقت الرحيل عن مالي لم يحن بعد، ولا يتوقع أنه آتٍ في القريب العاجل، ويرى أنّ استمرار القوات الفرنسية  في مالي، هو دعم للدولة، رغم اعترافه بأنّ هناك عمليات القوات الفرنسيّة ضد الإرهابيين، غالباً ما يكون لها ضحايا من صفوف المدنيين، مشيراً إلى أنّها تضحيات طفيفة بالنسبة للهدف المنشود.

الاستخبارات الفرنسية ودورها في الملف الأفريقي

ويعزو الباحث المتخصص في الشؤون الأفريقية، ومنسق أبحاث وحدة أفريقيا بمعهد الدراسات المستقبلية في بيروت، الدكتور محمد عبد الكريم، النفوذ الفرنسي المتعاظم في أفريقيا، إلى الدور الذي تمارسه الأجهزة الاستخباراتية، والتي تلعب دوراً رئيساً في ترسيخ الوجود الأوروبي في أفريقيا، لا سيما دول الساحل والصحراء، ودعم التواجد الإستراتيجي لفرنسا في مواجهة الوجود الصيني والروسي.

 يضيف عبد الكريم، في تصريحه لـ “حفريات”: “بحكم الشراكات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تربط أفريقيا وأوروبا، كان لأجهزة الاستخبارات الفرنسية تصوّرها الخاص بأفريقيا، ويبرز هذا من خلال مبادرة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون “أوروبا الموحدّة 2024″، والمكوّنة من أربع نقاط رئيسة، وقع الجانب الأمني منها في المقام الأول، وأما في الشقّ الخاص بالحرب على الإرهاب، فقد برز احتياج أوروبا إلى صلات أوثق بين أجهزة استخباراتها، عبر تكوين أكاديمية استخبارات أوروبية، تعدّ فرنسا أبرز الحاضرين فيها، لما لها من سيطرة تاريخية ومعاصرة على أفريقيا”.

ويعدّ السباق الفرنسي إلى الموارد الأفريقية، أحد أهم مسارات عملية أجهزة الاستخبارات، والذي يراه عبد الكريم في نموذج العلاقة بين فرنسا ومالي والنيجر، فالأولى تطمح للسيطرة على الثانية والثالثة، أغنى بلاد العالم بالماس والذهب واليورانيوم”، ويتابع: “تسعى فرنسا لمجابهة أيّة دولة تجرؤ على المساس بحصّتها من خيرات مالي والنيجر،  وأفريقيا بأكملها، لذلك كوّنت شبكة سرّية من سياسيين ورجال أعمال ووكلاء لأجهزة الاستخبارات لحماية مصالحها، وتمكّنت، بمساعدة هذه الشبكات، من الاستحواذ على أغلب تلك الموارد”.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى