“التدخل الخارجي” في المفاوضات مع إيران
عندما وقع الهجوم على منشأة نطنز النووية تعالت الأصوات المطالبة لإسرائيل.
بالكف عن الممارسات التي من شأنها تقويض فرص نجاح مفاوضات الغرب مع إيران في فيينا، وكأن ما يجري في العاصمة النمساوية مفاوضات حقيقية، وما تحاول فعله مجموعة الست هناك هو تقويم سلوك طهران العدائي بما يحفظ الأمن والسلم في الشرق الأوسط والعالم.
في ظل كل ما تكشف عن أجندة المحادثات حتى الآن، يمكن القول إن الثلاثي الأوروبي، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، يحاول إعادة أمريكا إلى الاتفاق النووي المبرم عام 2015، مع بعض التعديلات التي تحفظ ماء وجه واشنطن، لن تتجاوز هذه التعديلات حدود البرنامج النووي لإيران، ولن تأخذ بأي شكل كان مصلحة دول المنطقة ومخاوفها المشروعة.
الإسرائيليون يدركون هذا جيداً، وقد أوضحوا خطورة ذلك قبل عقد الاجتماعات، وعندما وجدوا أن الأمريكيين والأوروبيين يتجاهلون مخاوفهم قرروا التدخل بطريقتهم، وكشفوا زيف ما يجري في فيينا، فبرنامج إيران النووي لم يكن يوما سلميا، والدول الست لا يهمها سوى مصلحتها في التفاوض مع طهران، مهما كانت التداعيات على دول المنطقة.
أما الشق الأول فقد أثبتته إيران بنفسها من خلال رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60% خلال بضعة أيام بعد هجوم نطنز، ومن يمتلك هذه المقدرة لن يعجز عن صناعة القنبلة النووية خلال أشهر، ولهذا السبب خرجت الترويكا الأوروبية لتعبر عن قلقها، وتعترف بأن طهران تمارس دأباً مدروساً لحيازة السلاح النووي وتهديد أمن المنطقة والعالم.
لو لم يقع هجوم نطنز لما تكشفت للعالم قدرة طهران النووية، والحقيقة أن الهجوم -باعتراف رئيس مركز البحوث البرلمانية والنائب في مجلس الشورى الإيراني علي زاكاني- عكس مدى اختراق مرتكب الهجوم للأمن الداخلي، وإن كانت إسرائيل هي من نفذته فعلاً، فقد أوصلت للعالم رسالتين واضحتين لا تحتملان التشكيك أو التأويل بأي شكل كان.
الرسالة الأولى هي أن إسرائيل تعرف عن البرنامج النووي الإيراني أكثر مما تعرف الدول الست التي تتفاوض مع طهران في فيينا. والثانية أن قبضة نظام خامنئي الأمنية هي من حديد صدئ لا يحتاج إلى جهد مهول لِليّه، إن كان هناك فعلاً من يريد تقويم سلوكه في المنطقة والعالم، ولكن يبدو أن دور إيران “كبعبع” غربي في المنطقة لم تنته صلاحيته بعد.
زاكاني في حوار إعلامي قال إن هجوم نطنز تسبب في تدمير معظم منشآت التخصيب في البلاد، بالإضافة إلى إتلاف أو تدمير آلاف من أجهزة الطرد المركزي، كما أنه استدعى من السلطات نقل وحدة نووية عالية السعة إلى الخارج لإصلاحها، ثم أعيدت محملة بنحو 150 كيلوجراما من المتفجرات، وانتهى بها المطاف في مكان يضم مواد حساسة.
زاكاني انتقد بشدة فشل أجهزة الأمن في إحباط “العملية التخريبية”، قائلاً إن إيران أصبحت جنة للجواسيس، كذلك وصف وعود السلطات بنصب أجهزة طرد مركزي حديثة في منشأة نطنز بعد الحادث الأخير بأنها “كاذبة”، وكمحصلة لما قاله النائب لا يخشى نظام طهران ممن يفاوضه، وإنما ممن يدرك فعلاً حقيقة عدائيته، ويؤمن باستحالة تقويم سلوكه.
يغمض الأوروبيون والأمريكيون أعينهم عن هذه الحقيقة، ويصرون على أن منع إيران من امتلاك السلاح النووي يكفي لتحويلها إلى سويسرا الشرق، أو يكفل دمقرطة نظام المرشد، هم في هذا لا يتجاهلون فقط الرسائل التوضيحية الكثيرة للدول المجاورة لهذا النظام، وإنما أيضا تصريحات ونداءات المعارضة الإيرانية التي تحتضنها دول القارة العجوز.
زعيمة المعارضة الإيرانية مريم رجوي، قالت خلال لقاء رمضاني نظم في باريس قبل بضعة أيام “إن نظام طهران خلق عشرات المليشيات القاتلة في لبنان والعراق واليمن، يشكل كل منها حكومات داخل الحكومات، ويعمل في تجارة النفط والمخدرات، بالإضافة إلى عمليات الاغتيال والترهيب وإراقة الدماء، وكل ذلك من جيوب الإيرانيين”.
رجوي تؤكد المؤكد الذي يعرفه القاصي والداني في السياسة الخارجية الإيرانية، أما عن الداخل فالمشانق والاعتقالات وحملات القمع والتنكيل بمن يعارض السلطة أو يشكو تردي الأوضاع المعيشية، تتحدث بملء الفيه عن طبيعة نظام طهران، وقابليته للإصلاح، وتبني الديمقراطية كنهج وأسلوب حياة ينعم فيه الإيرانيون بالعدالة والحرية والرخاء.
بسبب التجاهل الغربي لكل هذه المعطيات لا تتوقع دول المنطقة كثيراً من مفاوضات فيينا، وإن كانت تفكر بخياراتها المستقلة للتعامل مع الخطر الإيراني عليها، فهذا أمر مشروع ولا يحق لأحد الاعتراض عليه، لذا فإن مطالبة الأوربيين والأمريكيين لإسرائيل أو غيرها في الشرق الأوسط بعدم التشويش على “المفاوضات” هو ضرب من ضروب الأنانية.
دول المنطقة لا تجلس على طاولة المحادثات في العاصمة النمساوية، وكل التنازلات التي تقدمها أو تنوي تقديمها مجموعة الست لطهران لا تلزم أحداً في الشرق الأوسط، ولا تجبر إسرائيل أو الدول العربية على احترام مخرجات المحادثات إن لم تراعِ مصالحها، فكيف إن كانت المخرجات تضر بها، وتزيد من خطر نظام طهران على أمنها واستقرارها.
ما تطالب به دول المنطقة في محادثات فيينا أو أي حوار مع إيران، لا ينطوي على مبالغة، وقد اختصرته وزارة الخارجية السعودية في بيان مقتضب تعليقا على بدء طهران تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، فقالت إن الاتفاق مع إيران يجب أن يكون بمحددات أقوى وأطول تمنعها من الحصول على سلاح نووي، وتأخذ بعين الاعتبار قلق دول المنطقة من زعزعة طهران للأمن والاستقرار الإقليمي، سواء عبر هذا السلاح أو بأي خطوات أخرى.
يقول جورج برنارد شو إن التفاوض هو فن تقسيم الكعكة بطريقة ينصرف بعدها كل من الحضور معتقداً أنه حصل على الجزء الأكبر، والكعكة في فيينا لا يجب أن تكون برنامج إيران النووي وإنما دورها في المنطقة، فهذا هو العنوان الوحيد للمفاوضات الذي يجعل إسرائيل أو غيرها في الشرق الأوسط تتوقف عن التدخل فيها أو محاولة عرقلتها، أما بقية العناوين التي تخص من يجلسون على طاولة المفاوضات فقط فهي للاستهلاك الإعلامي ومن ثم لجمع المليارات على أنقاض أحلام الإيرانيين وسكان المنطقة ككل، بحياة مستقرة وآمنة وحرة وعادلة لا تسلب فيها إرادتهم، ولا تحتل أراضيهم، ولا تهدر دماؤهم.