سياسة

التدخل التركي في ليبيا ومآلات الإسلام السياسي


تشكّل حالة التدخل التركي السافر في ليبيا مرحلة فاصلة في مسيرة تيارات الإسلام السياسي، وفي فهم أبعادها، وكذا صياغة مصير هذه الحركات السياسية والفكر المسؤول عن كثير من مظاهر اضطراب الحياة السياسية في المنطقة.

ربما تكون نقطة البدء من مكان آخر، من قضية التوظيف السياسي للأديان عموماً، وهي قضية كتب فيها كثيرون وتناولتُها شخصياً في مواضع عديدة، وخلاصة ما سبق طرحه في هذا الصدد أنه منذ الخليقة عرفت الحضارات القديمة تداخلاً معقداً بين الدين بمراحل تطوره المختلفة والحكم والسياسة، وأن هذا التداخل وتوظيف الحُكّام وراغبي الحكم للدين كان دوماً جزءاً من حياة البشر قبل وبعد الأديان السماوية. وفي الواقع، فإن هذه الظاهرة في المجتمعات المسيحيّة والإسلامية من السهل رصدها وتحليلها تاريخياً، كما أن الحالة الإسرائيلية هي نموذج حادّ بهذا الصدد ويستحق التناول بشكل مستقل، ولكنّ الحديث سيقتصر هنا على الإسلام السياسي بمناسبة النموذج التركي.

التجديد والتوظيف

واستكمالاً لتأصيل الظاهرة، من المهم التوقف عند محطات ظهور الإسلام السياسي في العصر الحديث، والذي يعتبره البعض خطأً أنه بدأ مع حركة الإخوان المسلمين عام 1928، فالصحيح أن المجتمعات الإسلامية، بخاصة مصر، بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر في حركة التجديد والإحياء الديني بعد وقوع الاحتلال البريطاني وتراجع هيمنة وانغلاق الدولة العثمانية، التي كانت تمثّل قمة التوظيف السياسي للدين في عصرها. ومع حركة التجديد جاء أيضاً تيار الحركة الوطنية المصرية، والذي لعب مصطفى كامل دوراً مهماً في تحريكه، وكان هذا التيار في سعيه لغطاء أيديولوجي فكري وشرعي قانوني، يستند إلى مفردات الانتماء لشرعية الدولة العثمانية الإسلامية ومفردات خطاب إسلامي، صاحبها زمنياً دعوات لإحياء فكرة الخلافة، وقادها الشيخ رشيد رضا اللبناني، الذي انتقل إلى مصر.

ومع فشل هذه التحركات في تحقيق أي تقدم على صعيد الاستقلال خلاف بعث الروح الوطنية، تبلورت حركة وطنية مصرية مدنية أكثر نضجاً، قادها سعد زغلول وحزب الوفد، وبدأت معالم مرحلة ديمقراطية دستورية. في ذلك الوقت أحيا القصر الملكي المصري بمعاونة عدد من رجال الأزهر مشروع توظيف الدين وإحياء الخلافة الإسلامية التي سقطت في تركيا وبدأت محاولة طرح العاهل المصري فؤاد لهذه الخلافة، وهي المحاولة التي أسقطها كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ علي عبد الرازق، الذي عوقب على خلفية ذلك في قصة معروفة للجميع.

من هذه الخلفية جاء طرح مشروع الشيخ حسن البنا للإخوان المسلمين عام 1928، هو الطرح الأيديولوجي الأشهر والمؤسس لحركة سياسية متبلورة منذ ذلك الوقت، والملاحظ أنه كانت هناك غيوم طوال الوقت حول علاقة الحركة بالقصر الملكي المصري، والاحتلال البريطاني، ولكنها مع الخمسينيات بدأت تشارك في مفردات خطاب سياسي معادٍ لـ”الصهيونية” والغرب. وتدريجياً، بخاصة بعد اغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات، بدا صوتها يعلو أكثر بادّعاء كونها حركة معادية للغرب و”الصهيونية”، وترسخ هذا بعد بروز حركة “حماس” في غزة بخطاب ليس موجهاً ضد “الصهيونية” فقط، ولكن أيضا ضد الغرب، وبدأ تناقض يتبلور تدريجياً من ما هو معروف من سعي الحركة والإخوان عموماً في مصر وغيرها للحصول على ثقة الغرب، وهي صلات في الأرجح لم تنقطع أبداً، ولكنها تدريجياً ومع نهايات القرن الماضي بدأت تأخذ منحنى جديداً، عنوانه تشجيع تيار أقل تطرفاً من تلك المتشددة كالقاعدة وبعد ذلك داعش، من دون أي اكتراث لفكر الإخوان كمؤثر على هذه التيارات، ولا بالعلاقات التنظيمية التي ثبتت في أكثر من مرحلة وبلد.

وقائع ودلالات

وفي الواقع، إن فصول هذه القصة وتداعياتها بعد ما يسمى بـ”الربيع العربي” ليست محل نقاشنا هنا، لكن تكمن أهميتها في إلقاء الضوء على بعض الدلالات:

أولاها، أنه على الصعيد الفكري كان هناك دوماً تفاعلات بين كل تنظيمات الإسلام السياسي حتى لو تجادلت واختلفت في ما بينها أحياناً.

وثانيتها، أنه في أكثر من محطة كانت تحالفات هذه التيارات إحدى ظواهر الحركة في البلدان المختلفة، بما في ذلك التشكيلات العسكرية التي عرفتها صراعات كأفغانستان أو سوريا والعراق، أو في ما يتعلق بحركة الجماعات الإرهابية في مصر.

ثالثتها، أن فكرة الأممية الإسلامية كانت مطروحة منذ رشيد رضا، وأبرزتها كتابات إخوانية أيضاً، ثم تجلّت في إدارة عدد من الصراعات، بخاصة ما ورد في البند السابق، وثمة تصريحات مهمة لمرشد الإخوان السابق تشير إلى تسفيه فكرة الوطن.

في ظل كل هذه الخلفية الطويلة، نستطيع الانتقال إلى تحليل حالة التدخل التركي في ليبيا كامتداد لهذه الظاهرة، ولكن بنقلة نوعية جديدة، من الصعب تصوّر أنها لن تحدث آثاراً عميقة تتجاوز الدلالات السابقة.

تخل متدرج

يلاحظ أولاً أن التدخل التركي حدث مبكراً منذ بدايات الثورة في ليبيا، ولكن بقدر من التدرّج، جاء في البداية مستتراً وهامشياً لصالح دور أكبر للناتو في التحرك الذي قادته فرنسا وأدى إلى إطاحة الرئيس معمر القذافي، ثم بدأ تدخل قطري منذ بدايات عمل المجلس الانتقالي الليبي الذي سلّم البلاد للميليشيات المسلحة، وأغلبيتها من العناصر المتطرفة، ثم كانت النقلة الكبرى خلال معركة السيطرة على مطار طرابلس في منتصف عام 2014، حيث أشارت معلومات أصبحت شبه مؤكدة إلى أن تركيا نقلت بتمويل قطري عناصر من الميليشيات الإسلامية في سوريا إلى الأراضي الليبية، انضمّت إلى ما سمي بعناصر “فجر ليبيا” الإخوانية، ما اضطر ميليشيا قبائل الزنتان إلى الانسحاب أمامها، والتي أحكمت بهذه السيطرة على العاصمة طرابلس، وبدأت مرحلة جديدة في المشهد الليبي اكتملت بالتوصل إلى اتّفاق الصخيرات في العام التالي سبتمبر (أيلول) 2015، وتشكيل حكومة الوفاق التي هيمن عليها عناصر الإسلام السياسي أو المتحالفة معها ونشأت ترتيبات وحالة استقطاب جديدة في الساحة الليبية، ثم كان الفصل ما قبل الأخير عندما تقدّمت قوات الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر نحو الغرب الليبي بعد طرد الميليشيات المسلحة شرقاً وجنوباً، ومع عدم حسم أي من الطرفين، سواء قوات حفتر أو السراج رئيس المجلس الرئاسي بالوفاق، وتضييق الجيش لضغوطه على الميليشيات، بدا الفصل الأخير للتدخل التركي بتوقيع السراج وأردوغان اتفاقية شراكة وتحالف عسكري، بمقتضاه تتدخل تركيا لإغاثة آخر بؤرة من الإسلام السياسي السني.

ورغم أن هذه الاتفاقية تخرج على تفويض حكومة الوفاق، ورغم رفضها دولياً من أغلب دول العالم تقريباً، بدأت أنقرة في تنفيذ بنودها ونقل المعدات والعتاد والخبراء العسكريين، فضلا عن “المرتزقة” من ميليشيات داعش والقاعدة، ونسبة رئيسة منهم سوريون، وإذ تتواصل المعركة حالياً بين الطرفين، وتتجنّد قنوات الإخوان المسلمين في قطر وتركيا لدعم التدخل التركي، فإن الأمر يستحق النظر إليه في دلالالته ومعانيه السياسية بصرف النظر عن مستقبل حسم هذا الصراع.

فالشاهد الآن هو تحوّل منابر الإخوان المسلمين وقياداتهم إلى أدوات في خدمة المشروع التركي السياسي، الذي لا يأتي وصفه من القوى المعارضة له فقط بالعثمانية، بل لا يتورّع أردوغان نفسه عن استخدام هذه الصفة بافتخار، وكذا مفردات سياسية من تاريخ بلاده وعلاقاتها بليبيا وبتعبيرات محددة حول مصالح تركية يجب حمايتها في ليبيا، مستخدماً حتى تعبيرات مستمدة من تراث استعماري أوروبي قديم. وبالاختصار، اختزال المشروع السياسي الإسلامي في المشروع السياسي التركي، ولو حتى بما يشبه إعادة الدولة والخلافة العثمانية. وفي الواقع، إن هذا التطور الخطير في حركة وخطاب الإخوان المسلمين هو التعبير الأخير عن إفلاس المشروع والخطاب السياسي الإخواني، وانتقاله من أممية كاذبة وتزييف شديد للخطاب الديني، ومن توظيف للدين للوصول إلى الحكم ومنافعه إلى هذا المنحنى الأخير من الخواء الأيديولوجي والفكري الذي يصل إلى الخيانة وغسيل العقول، ويقترب بنا من نهاية هذه الأطروحة فكراً وحركةً ويكشف كل ادّعاءاتها.

من هنا، ورغم أن هذا قد يكون سابقاً لأوانه أو يحتاج إلى بعض الوقت، فإن هذا التدخل التركي في ليبيا وما يحيط به من رعاية ودعاية إخوانية وتدنٍ شديد في تأييد كل خطوة أو تحرك تركي بشكل عام، قد يكون آخر محطات الخطاب السياسي الإخواني في العصر الحديث، وإنهاءً للأطروحة بالمعنى الهيغلي، ربما لن يكون آخر محطات توظيف واستغلال الدين في السياسة، ولكنه في الأقل يقترب بنا من ذلك.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى