التحولات الجيوسياسية في عالمنا المعاصر
يبحث مفهوم الجيوسياسية بصفة عامة في العوامل الجغرافية والاقتصادية والثقافية التي تؤثر في سياسات الدول وفي العلاقات الدولية،
ويقتضي معرفة طبيعة التطورات المرافقة لمناهجها واختصاصاتها المساهمة في مُجمل العوامل بالغة التأثير في أوضاع الدول من حيث ارتقاؤها ونموها وما يصاحبها من انهيارات تطمس معالمها وسيادتها، في حين الجغرافيا السياسية الكلاسيكية، تُعد القضية المركزية وهي الاستيلاء على الأراضي والدولة ذات السيادة، وهي الفاعل الوحيد.
لكن الجيوسياسية المعاصرة بلغت شأناً واسعاً وأبعاداً وغاياتٍ خطيرةً، بكل أدوارها، إذ تتناول بالتحليل العناصر الميكروفيزيائية للمجتمع والدولة، بما فيها المناطق والمدن والشركات متعددة الجنسيات والجهات الفاعلة الجديدة والمنظمات غير الحكومية، ومنها ما يختص بالحركات النسوية وحركات الدفاع عن الحريات إلى حركات الدفاع عن تدهور ومخاطر البيئة، وبعض حركات مناهضة العنصرية وبعضها قد تحمل رؤى مخالفة لأنماط واقع المجتمع، وهذه الجيوسياسية جزء من التطورات العالمية التي تؤثر في جميع الظواهر الاجتماعية والحياتية، ولم يعد الأمر يتعلق فقط بتوزيع المنافع والمساحات الإقليمية، بل أيضاً القبض على التدفقات بجميع أنواعها، وتشكيلات القوى التي تنتج منها، وهكذا يتم رسم الجغرافيا السياسية الكلية التي تعمل بطرق شتى وبطريقة استخدام المواقع والمناطق وفي إدارتها.
طرأت بوادر تغيير على النظام الدولي الذي تأسس منذ الحرب العالمية الأولى، والذي ترسخ بشكله السياسي والأمني والاقتصادي بعد الحرب الباردة، في الوقت الذي تعددت فيه القوى الدولية والمؤثرة في التوازنات الاستراتيجية وحازت على مقاعد رئيسية على طاولة صنع القرار العالمي، واليوم تسعى القوى الطموحة إلى ضبط قواعد اللعبة الاستراتيجية في النظام الدولي بالطريقة التي تخدم مصالحها، مستغلة حالة الفوضى المنتشرة في مختلف أنحاء العالم بطرق مختلفة على شكل صراعات مسلحة أو احتجاجات شعبية أو يمين متطرف.
الأزمات المتلاحقة والتطورات المفاجئة على مدار تاريخ علم العلاقات الدولية أسهمت في تطوير أُطر المعرفة النظرية علاوة على ذلك، أنتجت طروحاتٍ وأفكاراً لتطوير مصطلحات ومفاهيم ومداخل جديدة بإطار معرفي يقوم على وصف وتفسير ملامح الواقع الجديد قيد التشكيل، وعلى ما يبدو أن التغييرات الدولية أصبحت متسارعة وجذرية وتحتاج إلى محاولات لتأطير حركة التحولات تلك وديناميكيتها بمفاهيم تساير تلك الموجة للتفاعلات الدولية، وضمن السياقات الجيوسياسية تصاعدت حدة آثار التوترات المحتملة بين القوة المهيمنة ونظيرتها القوة الصاعدة.
واستمداد الإحاطة بغزارة الوقائع وإيراد الظواهر يعكس جيوسياسية جديدة في مناطق متعددة سعياً نحو تعددية قطبية، وهو ما يستدعي تزايد الخلل في علاقات القوة الفاعلة في النظام الدولي، الأمر الذي يفرض علينا الاهتمام على النحو الموضوعي والعلمي بسمات النموذج الحضاري، فالصين تعد قوة سلام، وهي تسعى بشكل خاص إلى إبقاء علاقات سياسية واقتصادية طيبة مع جارتيها روسيا واليابان، وسعيها ينطلق من أهمية دورها المستقبلي وهي ليست مع الهيمنة حتى ولو أصبح اقتصادها متطورا عالمياً، وفي مفهوم الحكومة الصينية أنه ليس من المعقول قطعاً تسييس المسألة التجارية لأن ذلك من شأنه أن يسيء إلى مصالح الصين وأمريكا على حد سواء، ويؤدي إلى احتمالات عواقب وخيمة إذا انتهكت واشنطن اتفاقاً بين الجانبين حتى تسمح بزيادة صفقات الأسلحة لتايوان، ولذلك تعطي هذه التطورات فكرة عن أثر التحولات وحدود التغيير الذي تؤديه القوة الصاعدة كقطب دولي جديد يبحث عن مكانته في تشكيل النظام الدولي.
وعلى الجانب الآخر، تحوّلت منطقة القرن الأفريقي إلى منطقة ساخنة سُلطتِ الأنظارُ عليها، لتكون مفتوحة للسباق على النفوذ والسيطرة بشكل غير مسبوق، لكنَّ غيابَ مشروعٍ عربيٍ مشترك لاستثمار المكانة الاستراتيجية للبحر الأحمر، فتح الباب أمام مشاريع فردية لبعض الدول إقليمياً ودولياً لملء الفراغ، وتفاقم السباق المحموم على النفوذ في هذه المنطقة، وانعكاساته على مستقبل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، والتنافس الإقليمي والدولي في البحر الأحمر ليس بجديد، فالأوضاع المضطربة بالمنطقة والفشل في إدارة الخلافات بين دولها عزّز المخاوف من أن تؤدي هذه المنافسة المحتدمة إلى تأجيج الخلافات القائمة وربما إشعالها وسعي الدول الإقليمية والدولية لتعزيز نفوذها وتوسيعه في المنطقة.
وتلك التحولات الجيوسياسية في العالم وانعطافاتها المرحلية تطرح أسساً جديدة ونظاماً عالمياً في طور التشكيل، مما يعكس ملامح أزمة عالمية في مرحلة ما بعد جائحة كورونا هدفت في مضمونها إلى التسريع في الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، وتراجع التأثير العالمي للولايات المتحدة، وفي وجه هذا الاتجاه تحاول هذه الأطراف الصاعدة تثبيت الواقع القائم ضمن مناطق نفوذها في سبيل تعزيز المسار الحقيقي بوصفه نقطة ارتكاز لتأسيس أشكال جديدة لأنماط من التحولات العالمية.