«الارتياب المشروع»: استهداف للعدالة وإفلات من العقاب!
دوماً في لبنان، يشكل «عدم القدرة» على الكشف عن مرتكب أي جريمة مؤشراً كافياً لتصويب البوصلة نحو هوية القاتل، القادر دائماً وأبداً على الإفلات من العقاب! وعندما تتشابه جرائم قتلٍ عديدة تختلف الأسئلة، خصوصاً أن لبنان يعيش تحت وطأة جريمة تفجير مرفأ بيروت وتداعياتها المتواصلة.
صباح الاثنين 21 الجاري، قتل الشاب جو بجاني أمام منزله في بلدة الكحالة شرق بيروت. تمت عملية القتل في وضح النهار، وسجلت الكاميرات المنتشرة التفاصيل. أجهز قاتل محترف على الشاب المغدور برصاص مسدس كاتم للصوت، واستولى رفيق القاتل على هاتف المغدور وآلة التصوير التي لا تفارقه، ما يدل على أن الكاميرا التقطت ما لا يجب أن يُفضح، وأن ذاكرة الهاتف تحتوي على ما هو خطير، وفرّ الجانيان عبر البساتين، بعدما أنجزا عملية احترافية عليها بصمة منظمة إجرامية مدربة تمتلك إمكانات كبيرة.
قبلها بفترة قصيرة قتل العميد المتقاعد في الجمارك منير أبو رجيلي في منزله الصيفي في بلدة قرطبا الجبلية، واستخدم الجاني آلات حادة في ارتكابه لجريمته. كان العقيد أبو رجيلي قبل تقاعده في عام 2017 مسؤولاً عن مكافحة التهريب في الجمارك اللبنانية. وقبل ذلك بـ3 سنوات قتل أمام منزله العقيد المتقاعد جوزف سكاف المسؤول السابق في الجمارك، الذي كان في عام 2014 أول مسؤول جمركي كبير رفع التقارير الخطية المفصلة عن خطورة تخزين «نيترات الأمنيوم» في مرفأ بيروت.
لم تكن السرقة هي الدافع في الجرائم الثلاث، وتقول المعطيات إن جو بجاني عمل في التصوير والتوثيق على جريمة الرابع من أغسطس (آب) مع جهات تحقيق دولية أميركية وفرنسية. أما جوزف سكاف فكان أول من حذّر من خطورة وجود مستودع الموت في المرفأ، وقالت المعطيات إن المحقق العدلي في جريمة الحرب التي استهدفت المرفأ وبيروت استمع إلى إفادة أدلى بها العقيد أبو رجيلي.
كل هذه الجرائم الخطيرة تبدو متسلسلة، ورغم إعلان وزير الداخلية أن «الأمن ممسوك»، لا شيء بعد في ملف العقيد أبو رجيلي، كما أن محاولة لفلفة مقتل العقيد سكاف افتضحت، وما أبرزته الكاميرات في الكحالة كان يجب أن يفضي إلى توقيف المرتكبين. ولأن الملفات تبدو فارغة، فهناك ما يشي بأن كل هذه العمليات تنفذ تحت غطاء سياسي – أمني، والأمر الخطير أن تتم بعض هذه الاغتيالات بعدما نُسب لأجهزة أمنية أنها أبلغت مجلس الدفاع الأعلى بوجود معطيات عن اغتيالات تطال سياسيين وغير سياسيين، فيما طمأنت أخرى أن الأمن تحت السيطرة (…) وتزامن كل ذلك مع حملة إعلامية هددت اللبنانيين: «العدالة تؤدي إلى العنف»! فهل تندرج هذه الجرائم في سياقٍ أخطر ألا وهو سياق إزالة الشهود في جريمة المرفأ؟
اليوم يكون قد مضى أسبوع على تعليق قاضي التحقيق العدلي فادي صوان كل التحقيقات والمتصل بها في جريمة مرفأ بيروت، على خلفية الدعوى المضادة أمام محكمة التمييز ضده بتهمة «الارتياب المشروع».
الوزيران السابقان المدعى عليهما، وزيرا الأشغال غازي زعيتر والمالية علي حسن خليل، تمترسا وراء «الحصانة النيابية» التي باعتقادهما أنها تفوق من حيث القيمة دماء اللبنانيين التي هُدرت ظلماً، وباشرا العصيان السياسي على القضاء، وذهبا إلى بدء إجراءات التفافية بهدف شل التحقيق، من خلال الادعاء على القاضي صوان بأنه «غير موضوعي وغير حيادي»، لإرغامه على التنحي، أو فرض سحب الملف من بين يديه. ومن الذرائع أن من ادعى عليهم صوان ينتمون إلى خطٍ سياسي واحد، وهم رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وثلاثة وزراء: يوسف فنيانونس إضافة لزعيتر وخليل! يعني هل النقص هو في غياب مدعى عليه من خط سياسي آخر؟
أما البرلمان فذهب إلى اتهام القاضي بـ«التسييس» ولم يذكر لصالح من؟ واللافت قول نائب الرئيس الفرزلي: «نحن العدالة شاء من شاء وأبى من أبى»! ورغم إعلانه مطالبة البرلمان للقاضي صوان تسليم ملف التحقيق لدرسه، أعلن مسبقاً حكم البراءة على المدعى عليهم: «نحن لم نجد أي شبهة جدية أو غير جدية على كل من ذُكرت أسماؤهم»، ومضيفاً: «لا نشك أن خلفية ادعاء القاضي صوان سياسية».
الحملة المضادة جمعت كل المنظومة السياسية رغم التناقضات العميقة بين أطرافها، فأخرجوا «أرنب الحصانات» النيابية للالتفاف على المفاجأة التي تسبب فيها قاضي التحقيق العدلي في جريمة تفجير المرفأ، الذي ادعى بتهمة الإهمال الجنائي، على الرئيس دياب و3 وزراء سابقين كان قد استمع إليهم كشهود، إلى مسؤولين أمنيين كبار. وتأكد أن الادعاء سيطال لاحقاً كل رؤساء الحكومات ووزراء الأشغال والعدل والمال منذ عام 2013، وتزايدت احتمالات الاستماع إلى رئيس الجمهورية وهو الذي قال إنه كان يعلم. طبعاً الاتهام كبير ويرتب تبعات جسيمة نتيجة مقتل ما يزيد على 200 شخص وجرح الألوف بينهم أكثر من ألف أصيبوا بإعاقات دائمة، إلى الخسائر المادية المستمرة التي تتجاوز الدمار، وهي بمليارات الدولارات.
لكل ذلك استهدفوا قاضي التحقيق من خلال تهمة «الارتياب المشروع» والهدف شل التحقيق، كما القضاء، الذي التقى مع ضغط الشارع وكل الموجوعين لمنع الإفلات من العقاب. هنا ينبغي النظر إلى خطورة أن تكون الجرائم المرتكبة جزءاً من خطة إلغاء الشهود! أدت التطورات إلى تحركات متدرجة حماية للتحقيق والقاضي صوان، وتحذير محكمة التمييز من خطورة إحباط اللبنانيين. وواقع البلد يشي بأن المواجهة فتحت معركة فرض استقلالية القضاء، بعدما أمعنت المجالس النيابية في حجز قانون استقلاليته، مع ما يحمله ذلك من مخالفة صريحة للدستور الذي ينص على سلطة قضائية مستقلة.
العارفون ببواطن الأمور يردون هلع منظومة الحكم وانقضاضها على التحقيق إلى ترجيح أن يكون قاضي التحقيق قد بلور رؤية خلف الادعاء، من معالمها أن تُظهر العمليات الاستنطاقية أن أغلبية أطراف منظومة الحكم كانوا على علم بمحتويات العنبر «رقم 12»! ما قد يظهر الحقيقة في كيفية وصول شحنة الموت أواخر عام 2013، وخلفيات طلب وزارة الأشغال (الوزير زعيتر) إفراغ الباخرة وتخزينها، بعد قرار قضائي بالحجز صدر نتيجة مطالبات مالية ومن ثم غياب جهة الادعاء وتخليها عن «حقوقها»! وقد يفضي ذلك إلى تسليط الضوء على دور الجهات المقررة، من هيمنة «حزب الله» على العنبر «رقم 12» والكثير من الأرصفة، إلى الجهات التي أمّنت الحراسة السياسية والأمنية والمالية كل هذه السنوات، والتي تحت أعينها أخرجت كميات يتردد أن بعضها استخدم في البراميل المتفجرة التي قتلت الشعب السوري، ويقال أيضاً إن هناك عنابر موت أخرى تحت وسادة اللبنانيين قد يتم تفجيرها في أي وقت.
* نقلا عن “الشرق الأوسط“