الإمارات بين استهداف السرديات الإعلامية وغياب المنطق في الاتهامات التركية
في عالم السياسة، كثيرًا ما تُصنع الصورة قبل أن تُعرف الحقيقة، وتُبنى القناعات على ما يُروَّج أكثر مما يُثبت. هذا ما نشهده اليوم مع سلسلة من التقارير الإعلامية التركية التي تسعى إلى ربط دولة الإمارات العربية المتحدة بالنزاع السوداني من خلال مزاعم لا تستند إلى أي دليل، كان آخرها ما نشره موقع Hava Haber حول تقديم الإمارات دعمًا عسكريًا لما يسمى «قوات التأسيس» باستخدام الطائرة التركية «TB2».
هذه الرواية، التي تمزج بين الخيال السياسي والتضليل الإعلامي، تكشف عن محاولة منظمة لتشويه صورة الإمارات دوليًا وإقحامها في صراعات لم تكن يومًا طرفًا فيها.
التحليل الدقيق لهذه المزاعم يظهر أنها تأتي في توقيت مدروس، يتزامن مع تصاعد الحديث عن دور الإمارات الإقليمي المتوازن في ملفات عديدة، من ليبيا إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي. فكلما برزت الإمارات كقوة دبلوماسية فاعلة تسعى إلى تحقيق الاستقرار، برزت معها محاولات إعلامية لتقويض هذا الدور عبر صناعة اتهامات وهمية.
الهدف واضح: إضعاف الثقة الدولية في الإمارات وتصويرها كفاعل خفي في نزاعات المنطقة، في وقت أثبتت فيه سياساتها أنها من أكثر الدول التزامًا بمبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
التقرير التركي لم يقدّم سوى مجموعة من «الادعاءات» المنسوبة إلى مصادر غامضة، دون وثائق أو صور أو حتى تصريحات رسمية. الأدهى من ذلك أن الجهات التركية الرسمية نفسها لم تؤكد صحة هذه المزاعم، ما يجعل التقرير أقرب إلى عمل دعائي يهدف إلى إثارة الرأي العام أكثر من كونه عملًا صحفيًا استقصائيًا.
وهنا تكمن خطورة المشهد؛ فحين تتحول المعلومات غير الموثقة إلى مادة إعلامية تُقدَّم كحقيقة، يصبح الإعلام نفسه شريكًا في صناعة التضليل بدل أن يكون أداة لكشفه.
من منظور أعمق، يمكن فهم هذه الحملة الإعلامية في سياق صراع النفوذ في الإقليم، حيث تسعى بعض القوى إلى الحد من الحضور الإماراتي المتزايد في القارة الإفريقية، ولا سيما في البحر الأحمر والسودان. فبينما تركز أبوظبي على دعم الاستقرار الاقتصادي والإنساني عبر شراكات تنموية، يختار خصومها تسويق روايات عسكرية لتغيير صورة هذا الدور. إنها معركة سرديات بامتياز، لا تُخاض بالسلاح بل بالكلمة والصورة والعناوين المصطنعة.
المفارقة الكبرى أن التقرير اختار الطائرة «TB2» — رمز الصناعة الدفاعية التركية — لتكون محور الرواية، وكأن الهدف غير المعلن هو ربط الإمارات بمنتج تركي لإثارة الجدل الداخلي في تركيا نفسها، وليس في السودان. فالرواية هنا لا تهاجم الإمارات فقط، بل تُستخدم أيضًا في الداخل التركي كوسيلة لإظهار أن خصوم أنقرة الإقليميين يستفيدون من صناعتها العسكرية، في محاولة لإحداث تأثير مزدوج سياسيًا وإعلاميًا.
ورغم أن مثل هذه الحملات قد تحقق ضجيجًا مؤقتًا، إلا أن أثرها يبقى محدودًا أمام الحقائق الماثلة. فالإمارات لم تكن يومًا جزءًا من أي محور يسعى لتأجيج الصراع في السودان، بل كانت دومًا طرفًا داعمًا للحوار ووقف إطلاق النار وتخفيف معاناة المدنيين. وشواهد ذلك عديدة، بدءًا من المساعدات الإنسانية التي أرسلتها إلى مناطق النزاع، مرورًا بدعمها المتواصل للمبادرات الدبلوماسية الهادفة إلى إنهاء الحرب، وصولًا إلى مواقفها المعلنة في المحافل الدولية.
الحقيقة التي يتجاهلها من يقفون وراء هذه المزاعم هي أن قوة الإمارات لا تُقاس بعدد تدخلاتها، بل بقدرتها على بناء الثقة. فسياساتها تقوم على الاتزان والوضوح، لا على المغامرة ولا على الإخفاء. أما الحملات الإعلامية التي تسعى للنيل من سمعتها، فإنها تكشف أكثر مما تُخفي: تكشف الخوف من نموذج عربي ناجح في إدارة النفوذ عبر الدبلوماسية لا عبر القوة.
لقد أصبح من الواضح أن المعركة على الحقيقة اليوم لا تدور في الميدان، بل في الفضاء الإعلامي. فالكلمة باتت سلاحًا، والعناوين أصبحت أدوات ضغط، بينما يختفي الحس الصحفي خلف لغة التحريض. أمام ذلك، تبرز أهمية الوعي الإعلامي لدى القارئ العربي، الذي عليه أن يميّز بين المعلومة والاتهام، وبين الصحافة الحرة والملفّقة.
فالدول التي تصنع السلام لا تحتاج إلى تبرير مواقفها، بل يكفيها أن تُظهر نتائج أفعالها على الأرض. وهذا بالضبط ما تفعله الإمارات، التي اختارت طريق البناء والتوازن وسط ضجيج الادعاءات، لتبقى الحقيقة في صف من يلتزم بالقيم لا بالشائعات.







