سياسة

الإرهاب صناعة ثقافية


العالم يلعن الإرهاب صباح مساء، ثم يزرعه ثقافةً، ويصنعه تربيةً، يكيل الاتهامات للسفاحين والمجرمين والقتلة، ثم يقدم لهم المبررات التي تدفعهم لمزيد من القتل العبثي في خطب سياسية رزينة محكمة؛ تحمل كل معاني الوطنية، والدفاع عن الذات الحضارية.

المسلمون يصنعون من الأوروبيين شيطاناً تاريخياً، ما زال يعتدي عليهم ويضطهدهم، وينهب ثرواتهم منذ الحروب الصليبية وحتى احتلال العراق.. ثم يدعون للعيش في سلام ووئام مع الأوروبيين وامتداداتهم في أمريكا وأستراليا.

والأوروبيون يشحنون شعوبهم ضد المهاجرين، ويرعبونهم من هيمنة الأعراق غير البيضاء من المسلمين على الحضارة الأوروبية ثم يدعون للتسامح والتعددية والقبول بالآخر.. هل يمكن أن يكون هناك نفاق أكثر من ذلك؟ وهل مارس العالم مثل هذا النفاق، وبهذا العمق والانتشار من قبل هذا العصر؟ وهل هو نفاق؟ أم أنه بلاهة واستحمار؟

حال غريب لم نعد ندركه من كثرة ما تعودنا عليه، تعايشنا مع أمراضنا، ومن شدة عمانا أصبحنا لا نرى أنها أمراض، بل قد نراها علامات على اكتمال الصحة، وتمام العافية، الشحنات الثقافية التي يبثها الكثير من السياسيين والمفكرين في عالمنا تصنع الإرهاب بصورة مباشرة، إما بزراعته، وإما برعايته وتنميته، ودعمه، ومساندته.

تقوم بهذه المهمة أجهزة صناعة الوعي، حتى وهي تهاجم الإرهاب وتلعنه، وتظن أنها تنقضه، وتهدمه.

في سنة 2007 أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بالتعاون مع وزارة الصحة ومكتب السكان، تقريرا حمل عنوان: لماذا تعتبر شيخوخة السكان قضية مهمة: رؤية عالمية، وفي العام التالي والذي يليه أصدرت وزارتا الخارجية في كل من الدنمارك وبلجيكا تقارير مماثلة.

وقد كان لافتا للنظر أن هذه التقارير تصدرها أو تشارك في إصدارها وزارتا الخارجية، بما يعني أنها ستؤثر في السياسة الخارجية لهاتين الدولتين، أو أنها ستحدد توجهاتها.

قدم هذا التقرير العديد من الحقائق الخطيرة التي ستؤثر على مستقبل البشرية، وفي القلب منها العالم الغربي وامتداداته في أمريكا وأستراليا، فقد عرف البشر طوال تاريخهم أن نسبة الأطفال تفوق كثيرا نسبة كبار السن في جميع المجتمعات، ولكن هذه الحقيقة انتهت في الدول المتقدمة، فقد تراجعت نسبة الأطفال إلى كبار السن بصورة كبيرة، وسيكون ذلك التراجع دراماتيكياً في عام 2050، وذلك لأسباب كثيرة، منها أولا: التقدم في العلوم الطبية، وامتداد مظلة الرعاية الصحية لمعظم السكان في تلك الدول، وثانيا: ارتفاع مستويات المعيشة مما يدفع الأسر إلى إنجاب أعداد أقل من الأطفال، وثالثاً: طبيعة الحياة العصرية وتعقيداتها التي تجعل العديد من الأسر لا ترغب في الإنجاب بل تستبدل ذلك بتربية القطط والكلاب، ورابعاً: انتشار قيم الحرية الجنسية والشذوذ التي تحول دون فكرة الزواج ذاتها. كل ذلك يعني أن أعداداً أقل من الأطفال سوف يتم إنجابهم في عام 2050.

والأشد خطرا في ظاهرة الشيخوخة هذه أن الجنس الأبيض الأوروبي سوف يتعرض للفناء والانقراض، فقد تناقصت نسبة البيض ذوي الأصول الأوروبية إلى سكان العالم من 28% سنة 1916 إلى 18% سنة 2016، وهذه قضية خطيرة تهدد العرق الأبيض الذي يرى أنه أرقى أعراق الأرض، وحامل مهمة تحضر وتقدم البشرية، والمسؤول عن حماية الإنسانية وخلاصها.
هنا تصبح قضية الشيخوخة قضية خطيرة تنشغل بها وزارات الخارجية لأنها تتعلق بالأمن القومي للدول الغربية المتقدمة، وتتعلق كذلك بمصير ومستقبل الحضارة الغربية، وهنا يمكن القول إنه ستظهر هناك سياسات ديموغرافية جديدة تشكل توجهات السياسة الخارجية للدول الكبرى، وتحدد تحركاتها العالمية، وهنا نجد أن هذه الأبعاد الديموغرافية قد أصبحت أحد أهم أبعاد السياسة الدولية في القرن الحادي والعشرين، وهنا نستطيع أن ننظر للأزمات الكبرى في العالم الثالث خصوصاً القريب من أوروبا في العالم العربي وأفريقيا من منظور ديموغرافي، خصوصاً مسألة الهجرة المشروعة، وغير المشروعة التي أصبحت تهدد الوجود الحضاري الأوروبي ذاته، وليس فقط الاقتصاد والوظائف، فمن المتوقع ألا تكون أمريكا وأوروبا مجتمعات بيضاء مسيحية في 2050، لأنه سوف تكون الغلبة حينئذ لأعراق أخرى، وأديان أخرى.

وفى المقابل هناك ثقافة تنشر الرعب والفزع في قلوب الأوروبيين والعرق الأبيض المسيحي عامة، تصدر هذه الثقافة من قيادات سياسية، وجماعات دينية تعلن أنها تسعى لإعادة تاريخ العثمانيين، وتحقيق أحلامهم في أسلمة أوروبا، وتحويلها كاملة إلى قارة مسلمة بالمعنى العربي والآسيوي، بما يعني تغييرها دينياً وثقافياً وحضارياً ومجتمعياً.. والإنسان الأوروبي يرى ذلك في مجتمعات مسلمة تعيش بالقرب من بيته، تلبس الزي الأفغاني أو الباكستاني أو أزياء شمال أفريقيا، وتعيش وكأنها لم تزل في عالمها القديم، لم تأخذ شيئا من الحضارة الأوروبية إلا المنافع الاقتصادية فقط.

في ظل هذه المواجهة الحضارية يكون الإرهاب صناعة ثقافية، تغذيه خطب الزعماء والسياسيين من الرئيس الأمريكي ترامب، الذي خلق حالة معادية للمهاجرين، خصوصاً المسلمين منهم؛ إلى الرئيس التركي أردوغان الذي يعيش على توظيف التاريخ في الدراما والسياسة لخلق أوهام تصب في مصالحه السياسية، فتكون النتيجة تخويف أوروبا من فظائع العثمانيين، ووحشيتهم التي طرقت أبواب العواصم الأوروبية الكبيرة لقرون. كما أن بيئة الكراهية هي التي مهدت الأرضية لارتكاب مجزرة نيوزيلندا ضد المسلمين.

نقلا عن “الأهرام”

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى