«الإخوان» كانوا زمان وانتهوا كحركة سياسية!
لم يخطُرْ على بالِ أحدٍ أنه عندما كان الحبيب بورقيبة في ذروة تألّقه وكان حزبه (الحزب الحرّ الدستوري) يضمُّ أهم رجالات الدولة التونسية وليس له أي تنظيمٍ منافسٍ، أنّ الرئيس جمال عبد الناصر سيعد حينها الزعيم الأوحد إنْ من قِبل أتباعه والمعجبين به وإنْ من قِبل الرأي العام في مشرق العالم العربي وفي مغربه، وحيث كان حزب «البعث» عندما لم يضربه داء التشرذم والانقسام بعد قد تمكّن من السيطرة على «قطرين» عربيين رئيسيين هما سوريا والعراق، وكان بعض الطلبة «التوانسة» قد تعرّفوا على هذا الحزب والتحقوا به بعدما حصلوا على «منحٍ دراسية» في الجامعات العراقية وفي الجامعات السورية.
كان راشد الغنوشي قد تتلمذَ سياسياً على إذاعة «صوت العرب» التي كانت تبثُّ من القاهرة، وكان صوت الإذاعة التونسية حتى في ذروة تألّقِ الحبيب بورقيبة وحزبه (الحزب الحرّ الدستوري) لا يصلُ إلى قرية «الحامة» في أقصى الجنوب التونسي التابعة لولاية «قابس».
ثمَّ ولأنه كان يعد نفسه «ناصرياً» فإنه قد ذهب إلى مصر في 1964 لإتمام دراسته الزراعية في جامعة القاهرة، لكنه بعد انتظارٍ دام نحو شهرين من دون أن يحصل على ما كان يريده، نصحه بعض معارفه وأصدقائه بأنْ يذهب إلى دمشق ليكمل دراسته في جامعتها، وهناك التحق بحزب «الاتحاد الاشتراكي» الذي كان قد شكّله جمال الأتاسي بعد اختلافه مع حزب «البعث» نظراً لأنه كان ناصرياً، وأصبح، أي الغنوشي، مسؤولاً للجناح الطلابي في هذا الحزب الذي ما لبث أنْ تلاشى بعد مستجدات سياسية إنْ في سوريا وإنْ في المنطقة كلها.
وعندما اندلعت حرب يونيو (حزيران) عام 1967 حمل راشد الغنوشي السلاح مثله مثل معظم الطلبة العرب الذين كانوا في دمشق، لكنه وبعدما أنهى دراسته في جامعة دمشق في عام 1968 ذهب في رحلة أخذته إلى عددٍ من الدول الأوروبية، ويقال إنه خلال جولته هذه التقى بعض المواطنين الباكستانيين الذين، كما قيل، هم من وضعوه على بداية الطريق إلى التيار «الإخواني» الذي أخذه لاحقاً إلى دولٍ عديدة.
ويبدو، كما يتردد، أنَّ انتقالة الغنوشي النهائية من «القومية الناصرية» صوب «الإسلامية» كانت بعد عودته إلى بلده تونس من فرنسا مروراً بالجزائر، حيث التقى أحد أكبر علمائها.
وفي تونس حيث حضر عزاء وفاة والدته كان قد التقى الشيخ عبد الفتاح مورو في أحد المساجد، وهناك كانت البداية للتخلّي عن «الناصرية» نهائياً والانتقال صوب التيارات المحسوبة على «الإخوان المسلمين» الذين تعزّزت علاقاته بهم لاحقاً خلال إقامته الطويلة في لندن ثم عودته إلى تونس، علماً أنه حكم عليه بالسجن لفترات متعددة خلال فترة حكم بورقيبة ومن بعده زين العابدين بن علي.
وهنا فإنه عليَّ أنْ أشير إلى أنني قد زرته في بيته بعد إطلاق سراحه، وحقيقةً أنني كنت أعتقد أنه لا يزال «قومياً وناصرياً»، ولم أعرف أنه كان قد انخرط في حركة إسلامية هي «حركة النهضة»، وأنه بقي ولعدد من السنوات متنقلاً بين دولٍ وعواصم كثيرة إلى أنْ عاد إلى بلده في عام 2011 بعد أولى ثورات الربيع العربي.
وبعد العام 2015، كثر الكلام عن ارتباط إسلاميي «النهضة» التونسية بالتيار «الإخواني» الذي يستضيفه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي بات يُنظر إليه بوصفه مرشداً لـ«الإخوان المسلمين» بعدما اُضطرَّ قادة «إخوان مصر» إلى مغادرة بلادهم وانتقالهم إلى إيران وإلى تركيا وانتقال بعضهم إلى بريطانيا التي كانت قد احتضنتهم منذ بدايات تأسيسهم بقيادة حسن البنا في عام 1928، الذي كان قد تم اغتياله في الثاني عشر من فبراير (شباط) عام 1949.
والمعروف أنه بعد حسن البنا الذي هو مؤسس الجماعة والمرشد الأول (1928 – 1949) قد تبوّأ هذا الموقع المهم جداً حسن الهضيبي (1949 – 1973) وعمر التلمساني (1973 – 1986) ومحمد حامد أبو النصر (1986 – 1996) ومصطفى مشهور (1996 – 2002) ويبقى أنّ هؤلاء، أي «الإخوان»، قد أصبحوا تنظيماً ممنوعاً في عدد من الدول العربية والإسلامية وأنهم صُنفوا تنظيماً إرهابياً في مصر والأردن والمملكة العربية السعودية وفي بعض دول الخليج العربي، وأنَّ هذا الاسم قد اختفى نهائياً في هذه المنطقة كلها، وأنه قد حلّت محلّهُ أسماء أخرى كثيرة لا ضرورة للإشارة إلى ذكرها، وربما هذا هو ما جعل «حزب النهضة» في تونس يتجنّب أي إشارة إيجابية لاسم «الإخوان المسلمين».
ومشكلة الغنوشي، الذي بدأ قومياً وناصرياً والذي اختار دمشق «البعثية» عندما خذلته القاهرة الناصرية، ولكن بعيداً عن «البعث» الذي كان قد أصبح في مواجهة مع الرئيس جمال عبد الناصر، أنه قد ارتدى العباءة والعمامة المحسوبة على تيارات إسلامية إخوانية متأخراً جداّ عندما أصبح «الإخوان المسلمون» تنظيماً محظوراً في معظم الدول العربية وفي عدد من الدول الإسلامية والدول الغربية الأوروبية، وهذا كله سيدفع ثمنه باهظاً رجب طيب إردوغان الذي من الواضح أنه بات حائراً بين «عثمانيته» و«إخوانيته» والذي لا يمكن أنْ يقبل «الإخوان» المصريون بأنْ يكون مرشدهم الأعلى بالنتيجة.
وعليه، ويقيناً، إنّ الأفضل لراشد الغنوشي أنْ يبتعد عن «الإخوان» نهائياً وأنْ يكتفي بالانتقال من «الناصرية» إلى «النهضة»، فـ«الإخوان المسلمون» باتوا يُعدّون تنظيماً إرهابياً في معظم دول العالم العربي، وحقيقةً في معظم دول العالم، ثمّ إنّ حكاية هذه «النهضة» لم تعدْ مُقنعة، وإنه من الأفضل له أنْ يكتفي من الغنيمة بالإياب، فمعطياتُ هذا الزمان غير معطياتِ الأمس البعيد، والمؤكّد أنّ الشعب التونسي لم يعدْ يقبلُ بماضٍ بات بعيداً وبإخوان عام 1928!
إنَّ تونس، هذا البلد الجميل بهذا الشعب الطيّب، لا يمكن أنْ تقبل بأنْ تعود إلى الخلف؛ لا إلى «نهضة» راشد الغنوشي ولا إلى «الإخوان المسلمين» الذين تجاوزتهم حركة التاريخ بنحو قرنٍ كاملٍ، فهناك أجيال صاعدة همومها ليست هي الهموم «الإخوانية» البالية وأيضاً ولا الهموم «البعثيّة» و«الناصريّة» و«الشيوعيّة»، ولذا فإنّ المعركة المحتدمة في هذا البلد الجميل الآن هي معركة بين الماضي الذي بات بالياً وغير مقبولٍ وبين معطيات القرن الحادي والعشرين الذي وضع كل قديمٍ خلفه والذي قيمهُ ومتطلباتهُ باتت قيم ومتطلبات الأجيال الصاعدة التي عليها أنْ تواكب حركة التاريخ وتترك كل قديمٍ لأهله القدماء!
كان الحبيب بورقيبة، رحمه الله، ورغم كل ما يؤخذ عليه قد وضع تونس الخضراء على مسار حركة التاريخ، وهنا فإنَ الكلَّ يعرف أنه قد اكتفى من هذه الدنيا بقبره في «المينستير»، وبأنه قد وضع بلده الجميل على طريقٍ غير طريق «نهضة» الغنوشي وغير طريق «الإخوان المسلمين» ولا أحزاب القرن العشرين التي لم تتركْ لهذه الأجيال الصاعدة إلّا ما تركته الانقلابات العسكرية كما هو واقع الحال في سوريا أُمُّ الانقلابات العسكرية.