“الأمل الإماراتي” وتطويع الطبيعة
حين تكون الإضافة النوعية لمسيرة الإنسان بحجم اقتحام فضاء خارجي مجهول.
فهذا يدل على أن العقول التي تقف وراء عملية التخطيط ورسم الأهداف قد تجاوزت جميع الصعاب، بعد أن عملت على تهيئة الظروف والمتطلبات العلمية والإنسانية والاقتصادية بهدف الوصول إلى مبتغاها، ومن ضمنها تحديد النتائج المرجوة من وراء هذه المهمة المحاطة بتحديات وعقبات تتطلب فهمها وإدراكها لاستنباط الحلول لأي طارئ ظرفي قد يبرز أمام الساعين إلى أهدافهم بإصرار وإرادة، متسلحين بأدواتها العلمية والتقنية.
لا تقاس نتائج الفتوحات العلمية بصيغة آنية أو ظرفية، ولا تتحدد بنطاق جغرافي مرسوم لها مسبقاً، فهذا المسار العلمي ينتج وهو في طريقه نحو أهدافه جملة من التحولات التي تطول معظم القطاعات العلمية والاقتصادية والإنسانية وفق عملية تراكمية ركائزها التجدد المستمر على المستويات كافة.
الإمارات…لماذا اختيار أن تكون المهمة لكوكب المريخ؟
استكشاف المريخ يعني استكشاف الفضاء الخارجي، يعني ببساطة انتقال دولة الإمارات العربية، بقيادتها ورجالها من العلماء الفاتحين، إلى مرحلة تطويع الطبيعة بأدوات علمية، وهزيمة غولِ جهلٍ ظل مسيطراً على عقل الإنسان وهو يرنو إلى الفضاء الخارجي بهواجس الترقب والأمل؛ صار الأمل حقيقة عربية ببيرق الإمارات العربية الناصع، وهو إعلان وإيذان بمرحلة جديدة على درب حجز مقعد راسخ بين العظماء من الدول والعلماء الذين سبقوا في هذا المضمار.
المهمات العلمية المكلف بها علماء استكشاف المريخ الإماراتيون عديدة ومتشعبة، ونتائجها ستكون إسهاماً علمياً عاماً لا تقتصر على جهة بعينها، إنها إسهامات تصب في رصيد العلم والعلماء المتخصصين في جميع أنحاء المعمورة، وتعود ثمارها على مسيرة البشر والبشرية جمعاء، ومن نافل القول إن النظر إلى مهمة مسبار الأمل لا بد أن تكون من زاوية القطيعة بين سياقين زمنيين لدولة الإمارات العربية المتحدة من جانب، وللدول العربية عموماً من جانب آخر، فقيادة الإمارات ورجالها الذين يسبرون اليوم فضاءنا الخارجي يسطرون عهداً علمياً ببصمة عربية ضمن سياق عالمي، وهم في طريقهم هذا يطوون صفحات مراحل فائتة؛ كان التأمل والرجاء عنوانها.
“المشروع جاء سعياً لتأهيل واحتضان الجيل الجديد من علماء الفلك والفضاء العرب، ولاستئناف جزء من الحضارة العربية العلمية”.. هكذا حدد الشيخ محمد بن راشد وظيفة مسبار الأمل ومهمته، وهو بذلك يأخذ على عاتق دولة الإمارات هاجس نهوض العرب جميعهم علمياً، ويحاكي مجداً تليداً لأمته التي كانت ذات يوم عنواناً ورمزاً للعلم والعلماء والمبدعين، فما أشبه اليوم بالأمس، لكن فقط حين يَمْتَحُ القادةُ الكبار من مخزون تاريخهم عبراً غنية، ويستلهمون من تجارب من سبقوهم أفكاراً تحاكي الحاضر وتمكّنهم من حيازة مستقبلهم بجدارة.
دولة الإمارات بمختلف تجاربها الاقتصادية، وسياساتها العربية والدولية، ومشاريعها التنموية الداخلية والخارجية، وطموحاتها وفتوحاتها العلمية، كانت نبراساً يُهتدى به.
فَرَادَةُ التجربة الإماراتية في كل ذلك تتأتى من التعاطي مع نتائج كل تجربة على أنها لبنة في مدماك بناء شاهق الارتفاع، متناهي الصلابة والمتانة، مميز الخصوصية، محورها الإنسان؛ بحيث صار هدفاً لمردود جميع هذه التطلعات، وسبيلاً ووسيلة في الوقت ذاته للوصول إلى الأهداف، وقد برهنت تلك التجارب على نجاح عملية الاستثمار في الإنسان ولأجل الإنسان، في عملية تفاعلية بين المواطن وقيادته قائمة على إدراك كل طرف لمسؤولياته ولدوره ولواجباته.
الإمارات تدخل التاريخ في عامها الخمسين
من الطبيعي ألا يكون مسبار الأمل، في مهمته وفي وظيفته، نهاية المطاف في استراتيجية دولة الإمارات التي تم تبنيها على قاعدة طموحة، وعاؤها “اقتصاد المعرفة”، وسبيلها محاكاة التطورات العلمية، وغايتها النهائية تعزيز الركائز التنموية وتنويع مصادرها، وهي بذلك لا تركن إلى مخزون الأرض من الطاقة فحسب كمصدر وحيد لتعزيز اقتصادها، بل تحيله إلى مورد من مواردها لخدمة أهدافها وصولاً إلى التنمية المستدامة في قطاعات متنوعة؛ اقتصادية وعلمية وبشرية، تسمح لها وتمكّنها من حجز مقعدها بين الكبار.
مسبار الأمل أيقونةٌ أخرى تضاف على صدر الإماراتيين قيادة وشعباً، وهو مدعاة فخر واعتزاز للعرب جميعاً، وفي معانيه ودلالاته الدنيوية؛ ومضاتٌ تنير الدرب أمام الطموحين، وتضيء عتمةَ ليلٍ عربي طال أمده مطبوعاً بعلامات لا تليق بعد اليوم بما تحقق على المريخ وعلى الطريق إلى المريخ من قبل دولة الإمارات.
إنه الإنسان حين يكون طموحُه واقعياً، علمياً، غيرَ محدود بأطر ذاتية. العظماء يكتبون التاريخ كما المنتصرون، ولكن أيُّ تاريخ؟ حتماً ليس تاريخَ الحروب والهزائم والانتصارات على الإنسان بيد الإنسان؛ بل إنه تاريخُ انتصار الإنسان على الجهل والتخلف، تاريخ اقتحام المجهول وتحويل ذلك المجهول إلى مصدر عطاء للإنسان بعقل وإرادة الإنسان. ستترك دولة الإمارات وإنسانُها بصمةً خالدة في مدار المريخ؛ شاهداً على عصر عربي عنوانه الأمل، وحاضنه العلم.