الأخوة الإنسانية مناسبة سنوية أممية
من غير تهوين أو تهويل، يمكن للمرء القول صادقا إن الإمارات العربية المتحدة باتت صانعة للتاريخ الإنساني المعاصر.
وشريكا فاعلا في استنهاض البشرية من كبوات الموت، وقيادة الخليقة في دروب الأخوة، ومسارات الإنسانوية المدْعُوة إليها.
قبل أن ينصرم العام الميلادي بأيام قلائل، وفي غمرة احتفالات أعياد الميلاد، تلك التي شاغبها الفيروس الكوروني الشائه، على أمل أن يسرق بهجتها، جاءت الجمعية العامة للأمم المتحدة عبر قرارها الخاص باعتبار الرابع من فبراير/ شباط من كل عام، يوما يُحتفل فيه بمعنى ومبنى الأخوة الإنسانية، لا سيما وأنه اليوم الذي شهد توقيع وثيقة هي الأولى من نوعها في التاريخ القديم والحديث على حد سواء، وثيقة يقودها كل من بابا روما وشيخ الأزهر.
ولعله من قبيل الصدْق في الوصف القولُ إنها وثيقة لأصحاب إرادات صالحة، وطوايا نقية، تتجاوز أصحاب الأديان الإبراهيمية، إلى من هم بشرٌ وإخوة في الإنسانية، وإن تركت بصمة خاصة على أبناء إبراهيم، وبخاصة في الشرق الأوسط والعالم العربي.
الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي دورتها الخامسة والسبعين، تدعو جميع الدول الأعضاء بالمنظمة ومُنظمات المجتمع المدني الحكومية وغير الحكومية، للاحتفال بهذا اليوم بدءا من العام المُقبِل 2021، من خلال حشد جهود المجتمع الدولي لتعزيز السلام والاندماج والتفاهم والتضامن، في هذا اليوم من كل عام.
يعِن لنا أن نتساءل: “ما الذي يعنيه هذا القرار للإمارات خاصة ولبقية العالم عامة؟”.
بالمختصر المفيد، يفيد بأن دولة الإمارات قد باتت حاملة لشعلة التنوير الحقيقي، في مواجهة الكثير من الزيْف الذي يموج به عالمنا المضطرب، وأن قيادتها قابضةٌ على جمْر مسيرة السلام، ولا سلام بين الأمم من غير سلام بين أتباع الأديان، كما أشار إلى ذلك المفكرُ الكاثوليكي السويسري الكبير هانز كنج في مشروعه العالمي للأخلاق.
ويعني كذلك أن الإمارات تزخم سياسة الأمم المتحدة وقراراتها الداعية إلى التقارُب بين الثقافات والترويج لثقافة السلام ونبذ العنف والكراهية، وإيمانا منها بالمساهمات القيمة التي يقدمها الحوار بين مختلف الثقافات والأديان في زيادة الوعي بالقيم المشتركة بين جميع البشر، وتهيئة بيئة مواتية لتحقيق السلام والتفاهم بين الجميع على كافة الأصعدة المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية.
هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن تخرج الجمعية العامة للأمم المتحدة بهذا القرار في هذا التوقيت المؤلِم، حيث البشرية تتألم كجسد واحد من فيروس يضرب ذات اليمين وذات اليسار، من غير روية، وبدون إمكانية استشرافية لقادم أيامه؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإنه من المُحقق أن الإنسانية لم تعرف منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لحظة أُميط فيها اللثامُ عن معنى الأخوة التي تنظم عقدها، كما عرفته في العام الأخير، وربما تكون الأشهر القادمة كذلك طريقا معبدا لإظهار المزيد من أنساق الأخوة، القافزة على العنصريات، والمخلفة وراءها القوميات، والباحثة عن الإنسان بدون لون أو عِرْق أو جنس، ساعية في شراكة روحية ووجدانية إلى انتشاله من بين براثن الموت إلى ضفاف الحياة.
ولعله من الثابت أن وثيقة الإمارات كانت محركا رئيسا في فكر البابا فرنسيس، وقد رأيناه قبل بضعة أشهر يصدر رسالة بابوية عنوانها “كُلنا إخوة”، وهي رجْع صدى لا يتلكئ ولا يتأخر لروح وثيقة الأخوة الإنسانية.
بل أكثر من ذلك، إذ إن الذين تابعوا كافة بيانات الحبر الأعظم وتصريحاته العام المنصرم، وبخاصة في مواجهة كورونا، قد لمسوا الأثر الإيماني والوجداني لحنايا وخبايا الوثيقة، ما ظهر منها بوضوح على السطح، وما بين السطور.
خلال لقائه قبل أيام قليلة بأعضاء الكوريا الرومانية (حكومة البابا)، أشار فرنسيس إلى أن زمن الوباء، يمكنه أن يُظهِر أفضل ما فينا، الأخوة المتجسدة في النظر إلى الآخر بوصفه شريكا في الحياة، وليس عقبة في طريق صعودي وارتفاعي الأنانييْن.
وعنده كذلك أن الأزمة أتاحت الفرصة واسعة عريضة لكثير من الأشخاص حول العالم ليصبحوا علامات في تاريخ الإنسانية، فالأزمة غربلتْهم على حد تعبير الرجل صاحب الثوب الأبيض، ونيرانها محصتْهم وأخرجت أنفع وأرفع ما فيهم.
والشاهد أيضا أنه حين ننظر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وقيادتها السياسية، وبنوع خاص خلال فترة الجائحة الأولى، الأشهر الماضية، نرى تطابقا تاما بين ما جاء في الوثيقة من مبادئ ومنطلقات ومُثُل إنسانية وأخلاقية رفيعة، وبين واقع ما قامت به عربيا ودوليا.
هنا، ومن باب التذكير، نشير إلى الطائرات الإماراتية التي تحركت حول دول العالم، شرقا وغربا، حاملة المُؤن، والأدوية، وكافة ما يحتاجه إخوة لنا في الإنسانية، مسهم الضر، بل إن هناك شراكة بعينها قامت بين الإمارات والفاتيكان، تم من خلالها إيصال أطنان من المساعدات إلى أدغال في قلب نهر الأمازون، إنهم إخوة مرئيون، وليسوا إخوة غائبين عن الأعين.
قرار الجمعية العمومية، هو دعوة لعالم يعاني من خطر منظور يتمثل في فيروس كورونا، وهذا طال أمدُه أم قصر، سيتم القضاء عليه بما وهب الله العلم والعلماء من مقدرة على الاكتشافات الطبية والفتوحات الأقربازينية (علم العقاقير عند العرب).
لكن فيروسات أخرى من قبيل الأنانية واللامبالاة والمادية والسباق المحموم على السلطة والجشع من أجل المال، هذه لن يتم القضاء عليها إلا من خلال بنود ومنعطفات وثيقة الأخوة الإنسانية وتطبيقاتها في الحِل والترحال، بهدف إسقاط الجدران وإقامة الجسور.
ما قدمتْه الإمارات العربية المتحدة للعالم في الرابع من فبراير 2019، يتجاوز بمراحل فكرة الوثيقة الشكلية، أو الزيارة البروتوكولية التي وقعت على هامشها اتفاقية دعائية.
وثيقة الامارات، والتي جاء الفيروس بعدها بأشهر قليلة، اختبار حقيقي لإنسانية القرن الحادي والعشرين، واختبار لا يجب أن يتم النظر إليه بوصفه حدثا سلبيا فقط، بل إنه فرصة ثمينة لمراجعة الأخطاء والخطايا في حق الذات وحق القريب، وفرصة للتفكير فيها والتكفير عنها.
ستمضي الإنسانية في مسار التعافي من كوفيد 19 وسلالته عما قريب، في حين يبقى الأهم هو تصحيح مسار الأخوة ووضعها على نصابها، ومن ثم تحرير عقولنا ونفوسنا وقلوبنا من كل ما هو سيء وسلبي … تلك هي القصة.