سياسة

«استسلام النخب» لترامب.. كيف سيؤثر على مستقبل السياسة الأمريكية؟


لطالما اعتُبرت المؤسسات النخبوية في أمريكا، من شركات المحاماة الكبرى إلى وسائل الإعلام العريقة والجامعات المرموقة، حصنًا منيعًا ضد أي محاولات للضغط السياسي، لكن الوقائع الأخيرة كشفت العكس.

ورغم أن تلك المؤسسات تمتلك نفوذًا واسعًا، وموارد كبيرة، وارتباطات قوية بمراكز القوة التقليدية، منحها القدرة على مقاومة الضغوط، سواء كانت من البيت الأبيض أو من قوى سياسية أخرى، إلا أن رئاسة دونالد ترامب، في ولايته الأولى، ثم عودته إلى المشهد السياسي بقوة في ولايته الثانية، كشفت عن حقيقة مختلفة تمامًا، وفق تحليل لصحيفة «بوليتيكو» الأمريكية.

المفاجأة

ومنذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أطلق ترامب وفريقه حملة انتقامية ممنهجة، استهدفت المؤسسات التي وقف بعضها في وجهه خلال رئاسته السابقة. غير أن المفاجأة لم تكن في الهجوم بحد ذاته—فأسلوب ترامب الصدامي لم يكن يومًا سرًا—بل في سرعة استسلام هذه المؤسسات.

شركات محاماة كبرى كانت تصطف ضد ترامب قبل سنوات، أصبحت فجأة تتسابق لتقديم خدمات قانونية مجانية له، ووسائل إعلام كانت من بين أشد منتقديه، وافقت على تسويات مالية ضخمة معه، وجامعات نخبوية، طالما تغنّت باستقلاليتها، انحنت أمام مطالب إدارته خوفًا من فقدان التمويل الفيدرالي.

هذه التحولات السريعة والدرامية تطرح أسئلة جوهرية عن ماهية السلطة في أمريكا اليوم. هل كانت هذه المؤسسات حقًا قوية كما اعتقد الجميع؟ أم أن ترامب كشف عن نقاط ضعفها الجوهرية؟ هل نحن أمام تغيير جذري في طريقة تفاعل النخب مع السلطة، أم أن هذا الخضوع مجرد تكتيك مؤقت في انتظار مرحلة سياسية جديدة؟

«الخضوع العظيم»

ووفق صحيفة «بوليتيكو» فإن ما يحدث الآن هو فصل جديد غير مسبوق في تاريخ النخبة الأمريكية يمكن وصفه بـ«الخضوع العظيم».

فالظاهرة ليست مجرد سلسلة من التنازلات المنفصلة، بل تعكس تحولًا عميقًا في موازين القوى بين النخب التقليدية والبيت الأبيض تحت قيادة ترامب.

لقد أظهرت هذه المؤسسات، التي طالما تباهت باستقلاليتها، مرونة غير متوقعة في مواجهة حملة ترامب الانتقامية. سواء كانت دوافعها الحفاظ على مصالحها المالية، أو تجنب الصدام مع إدارة مصممة على فرض إرادتها، فإن النتيجة واحدة: الامتثال الكامل لمطالب ترامب.

مؤسسات ترضخ لترامب

ومن بين أبرز الأمثلة على هذا الخضوع، شركات المحاماة التي كانت فيما مضى في صراع قانوني مع ترامب، ثم تحولت الآن إلى داعم غير مباشر له.

فقد كان مكتب «بول، وايس» من أشد خصوم ترامب القانونيين خلال ولايته الأولى، ووافق مؤخرًا على تقديم 40 مليون دولار من الخدمات القانونية المجانية لقضايا تتماشى مع سياسات إدارته.

أما مكتب «سكادن آربس»، أحد أكبر مكاتب المحاماة في العالم، فقد تعهد بتقديم 100 مليون دولار من الخدمات القانونية المجانية لقضايا موالية للإدارة، حتى قبل أن يصدر ترامب أي قرار يستهدفه.

الأمر لم يقتصر على مكاتب المحاماة. فشبكة «إيه بي سي نيوز» وافقت على تسوية دعوى تشهير مع ترامب بقيمة 15 مليون دولار، وهو مبلغ سيتم استخدامه لتمويل مكتبته الرئاسية المستقبلية.

وحتى صحف مثل «واشنطن بوست» و«لوس أنجلوس تايمز»، اللتان يملكهما مليارديرات مؤيدون لترامب، أعادتا صياغة سياساتهما التحريرية لتتماشى مع رؤية البيت الأبيض.

ضعف المؤسسات النخبوية

إن ما كشفته حملة ترامب ليس مجرد خضوع سياسي، بل حقيقة أن العديد من المؤسسات التي يُعتقد أنها مستقلة تعتمد بشكل كبير على التمويل الفيدرالي، مما يجعلها أكثر عرضة للضغوط مما كانت تظن.

جامعة كولومبيا، على سبيل المثال، وجدت نفسها في موقف حرج عندما هددت إدارة ترامب بحجب 400 مليون دولار من التمويل الفيدرالي المخصص للأبحاث.

وسريعًا، وافقت الجامعة على تسعة تغييرات في سياساتها، من بينها إجبار المحتجين المقنعين على الكشف عن هويتهم، وتفويض الأمن الجامعي بإجراء الاعتقالات.

أحد المطلعين على المفاوضات صرّح قائلًا: «لم يكن أمام الجامعة خيار آخر، كانت تدرك أن تمويل الأبحاث الحيوي سيكون مهددًا».

ما يميز حملة ترامب الحالية هي أنها لا تهدف فقط إلى تغيير السياسات، بل إلى إذلال الخصوم علنًا، وفق التحليل.

فمن بين المستهدفين شركات المحاماة التي وظّفت محامين ساهموا في التحقيقات ضد ترامب، ووسائل الإعلام التي هاجمته، وحتى جامعة كولومبيا التي رفضت صفقة عقارية كان يسعى إليها في التسعينيات.

يقول تاي كوب، المستشار القانوني السابق في البيت الأبيض، إن حملة ترامب تعكس استغلالًا غير مسبوق للسلطة، مضيفًا: «إنهم يلعبون على نقاط قوة ترامب، التي تشبه نهج زعيم مافيا».

لكن يبدو أن فريق ترامب لا يرى ذلك إهانة، بل دليلًا على نجاحهم في فرض إرادتهم على النخبة الأمريكية.

ويعني هذا التحول في استسلام النخب أمام ترامب أن السياسة الأمريكية تدخل مرحلة جديدة من الانتقام المؤسسي، حيث لم تعد المؤسسات الكبرى قادرة على الصمود في وجه الضغوط السياسية، بل باتت تُدار بعقلية «المعاملة بالمثل» بدلًا من الاستقلالية التقليدية.

كما أن استخدام النفوذ الحكومي لمعاقبة «الأعداء السياسيين» قد يصبح سلوكًا سائدًا، مما قد يؤدي إلى تآكل الديمقراطية الليبرالية التقليدية لصالح نهج أكثر سلطوية، وفي ظل هذا المشهد، ستواجه المعارضة صعوبة متزايدة في مقاومة السلطة التنفيذية، مما قد يعيد تعريف حدود القوة الرئاسية في أمريكا لعقود قادمة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى