إيران وثمن المحافظة على النظام
أغرقَ اغتيال الجنرال قاسم سليماني والرد الإيراني عليه المراقبين والمتابعين في الأسئلة. التحليلات كثيرة، والمعلومات شحيحة، خصوصاً حين يتعلَّقُ الأمر بمطبخ القرار الإيراني. يسود الاعتقاد أنَّ مستقبل العلاقات الإيرانية – الأميركية في الفترة المقبلة يتوقَّفُ على الطريقة التي ستقرأ بها طهران الرسائل المتلاحقة التي تلقَّتها في الآونة الأخيرة.
أسئلة كثيرة وإجابات قليلة. لماذا اختارت واشنطن رسالة بهذه القوة، وبهذا المستوى، على رغم معرفتها بما يمثله سليماني للنظام عموماً وللمرشد خصوصاً؟ هل كانت لديها فعلاً معلومات أن سليماني كان يخطط لتوجيه ضربات مدوية إلى سفارات وأهداف أميركية لمحاولة إطاحة تطلع دونالد ترمب إلى ولاية ثانية؟ هل تخوفت الأجهزة الأميركية من عمل إيراني يضع ترمب في موقف شبيه بموقف جيمي كارتر يوم كان عليه أن يتعامل مع أزمة الرهائن الأميركيين في طهران؟ ولماذا لم تتخوَّف واشنطن من أن يؤدي اغتيال سليماني إلى حرب، خصوصاً أن إيران قادرة على قتل أميركيين هنا أو هناك حين تقرّر دفع الرد إلى مستوى الحرب؟ هل تم استهداف سليماني لأنَّ الأجهزة الأميركية تعتبره مسؤولاً عن قتل مئات الأميركيين، أم لإطلاق رسالة مفادها أنَّ المشكلة مع إيران لا تقتصر على طموحاتها النووية، بل إنها تتعلق قبل ذلك بالهجوم الواسع في الإقليم، والذي كان سليماني رمزه وقائده، وأنَّ أميركا استعادت قدرة الردع التي فقدتها أيام أوباما؟ وهل اعتبرت إدارة ترمب أنَّ إضافة البعد الأمني إلى الضغط الأقصى الاقتصادي يمكن أنْ تدفعَ إيران إلى إعادة تقويم حساباتها، التي تعتبر الوجود العسكري الأميركي في المنطقة هشاً، وفي مرحلة أفول، وأنَّ حسابات أميركا باتت تعلق بالصعود الصيني أكثرَ من الشرق الأوسط ونفطه؟
كان سليماني شديد الحضور في العمود الفقري الأمني والسياسي للنظام الإيراني. لكن هذا النظام لا يقوم بالتأكيد على رجل، بحيث يؤدي شطب الرجل إلى شطب النظام. هذا لا يقلل من أهمية الرجل بالنسبة إلى طهران. لكن صناعة رمز وتحويله احتياطاً يمكن للنظام أنْ يلوذ به في ساعة الشدة ليست أمراً بسيطاً وقابلاً للتكرار. والسؤال هنا لماذا وقع الفصيل الوكيل الذي استهدف القاعدة في كركوك في خطأ التسبب في مقتل أميركي، وهو ما كانت تتحاشاه إيران في الفترة الماضية؟ وهل كان الغرض اختبار القدرة على إيكال مهمة قتل أميركيين إلى الوكلاء ومعرفة مدى قدرة إدارة ترمب على الرد على حدث من هذا النوع؟ ولماذا اختارت واشنطن الحالية معاقبة الوكيل بشدة، لكن مع إلقاء المسؤولية على الأصيل، ثم التعرض له مباشرة؟
يعتقد دبلوماسيون متابعون للتطورات الإيرانية أنَّ طهران لا تزال تقرأ في رسالة اغتيال سليماني، وهي ردَّت عليها حتى الآن بوسائل متعددة. الرد الأول كان تحويل تشييع سليماني نفسه إلى استعراض لشعبية الرجل والنظام بحشود كبيرة. الرد الثاني كان إطلاق الصواريخ باتجاه مواقع تضم أميركيين على أرض العراق، وكان واضحاً أن هذا الرد تحاشى التسبب في قتل أميركيين، لتفادي رد أميركي كبير لوَّح ترمب به في حال مقتل أميركيين. الرد الثالث هو إطلاق عملية عراقية لإخراج القوات الأميركية من العراق.
محاولة تحويل تشييع سليماني فرصة لإظهار الشعبية والوحدة والقدرة أصابها سوء الحظ، مرة حين سقط في التدافع أكثر من 70 قتيلاً، ومرة ثانية حين تبعت القصف للأهداف في العراق مأساة إنسانية، تمثلت في إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية. وبعد صمت اضطرت السلطات الإيرانية إلى الاعتراف بمسؤولية «الحرس الثوري»، ما شكّل جرحاً جديداً في صورة النظام وأجهزته الأمنية، إضافة إلى جرح سليماني.
ثم جاءت رسالة جديدة حين تسبب إعلان المسؤولية عن إسقاط الطائرة في احتجاجات أعادت إلى الأذهان موجة الاحتجاجات السابقة والقسوة المفرطة التي استخدمت في قمعها. يضاف إلى ذلك كلِّه الرسالة الدائمة التي يوجهها إلى السلطة التدهور الاقتصادي المتزايد بفعل العقوبات الأميركية، والذي دفع مسؤولين إلى الاعتراف بأنَّ الإيرانيين يعيشون أصعب الأيام منذ الثورة قبل 4 عقود.
لا تقتصر الرسائل على الداخل في نظر المتابعين. الاحتجاجات العراقية تشكِّلُ رسالة بدورها. أظهرت التطورات العراقية التي سبقت استقالة عادل عبد المهدي وأعقبتها أنَّ التركيبة السياسية التي رعتها إيران في بغداد تصطدم برفض شعبي عارم، ما جعل المحتجين يرفعون شعارات معادية لإيران وفي مدن شيعية تعتبر معقلاً لفصائل «الحشد الشعبي». غياب التمثيل الكردي والسني عن الجلسة التي اتخذ فيها البرلمان قرار مطالبة القوات الأجنبية بالانسحاب يؤشر إلى هشاشة الوضع العراقي. وسمع عبد المهدي خلال زيارته لكردستان أن إخراج قوات «التحالف» قد تكون له تداعيات خطرة، ذلك أنَّ خطر «داعش» لم يصبح بعد مجرد جزء من التاريخ. وواضح أنَّ إيران لا تستطيع أن تفعل كثيراً لتحسين الأوضاع في العراق، على رغم قوتها وقوة حلفائها هناك، فالمسألة لا تتعلق بالقوة العسكرية والأمنية، بل بالقدرة على إيجاد الحلول.
رسالة أخرى جاءت هذه المرة من دمشق حين جال فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تحدثت المعلومات أن بوتين أراد إبقاء سوريا خارج أي مواجهة إيرانية – أميركية محتملة. وثمة من يعتقد أن قسماً غير قليل من السوريين بات يعتقد أنَّ قبول «سوريا الروسية» هو مقدمة طبيعية للعودة لاحقاً إلى «سوريا السورية». وواضح أن ذلك يعني تقليص «سوريا الإيرانية».
الرسالة اللبنانية واضحة هي الأخرى. حلفاء إيران هم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة في لبنان. أوصلوا رئيساً للجمهورية، ويتمتعون بأكثرية في مجلس النواب. لكنَّ البلد يبحث بصعوبة وتوتر عن حكومة جديدة، وسط تزايد التدهور الاقتصادي وحديث الجوع والإفلاس. وواضح أن إيران لا تستطيع تقديم ما يغير اتجاه الأوضاع في لبنان تماماً كما هو الحال في اليمن، حيث تعمق صواريخ الحوثيين مأساة البلد ولا تحلها.
يصعب التكهن كيف سيقرأ مطبخ القرار الإيراني رسائل الداخل والخارج. المفرطون في التفاؤل يعتقدون أنَّ إيران ستجنح إلى خفض التصعيد عملياً مع إدارة معركة إخراج القوات الأميركية من العراق بأيدٍ عراقية في انتظار نتائج الانتخابات الأميركية. وثمة من يذهب أبعد قائلاً إن تلاحق الرسائل سيجدد الجدل لاحقاً في الدوائر الضيقة بين إيران الثورة وإيران الدولة، خصوصاً إذا تبين أن المحافظة على النظام تستلزم وقف الاندفاعة في الإقليم تفادياً لدفع «أثمان سوفياتية».
نقلا عن الشرق الأوسط