سياسة

إلجام العوام عن علم السياسة


نحن أمة لم تعرف من تراثها إلا شذرات ضئيلة لا تتعدى خُمس ما كتب على مر العصور.

وذلك حسب دراسة إحصائية قام بها كاتب هذه السطور على مدى عشر سنوات من 1985 إلى 1994، وما عرفناه من التراث لم يكن شموليا أو كاملا لأي كاتب أو مفكر أو فقيه، فابن تيمية على سبيل المثال له كتاب عنوانه “قاعدة في المحبة” يقترب بفكره من التصوف الذي يظن أنصاف المتعلمين أن ابن تيمية يحاربه ويعاديه ويُكفر محبيه.

حديثنا اليوم عن حجة الإسلام أبي حامد الغزالي المتوفى 505 هجرية 1111 ميلادية، فقد كتب في مجالات متنوعة، ولكن أنصاف المتعلمين حشروه في زوايا تتسق مع ضيق عقولهم، ومحدودية قدراتهم الفكرية، وللغزالي رحمة الله عليه رسالتان مهمتان، أولاهما بعنوان “إلجام العوام عن علم الكلام”، وثانيهما عنوانها “المضنون به على غير أهله”. وفي كلتا الرسالتين يناقش قضايا في عمق الفلسفة الإسلامية، ولكنه يرى أن هذه الموضوعات لا ينبغي أن يدخل فيها عوام الناس، أو يخوض غمارها أنصاف المتعلمين؛ لأنها من العمق بمكان يغرق فيه من تعود السباحة في البرك، ولا يجيدها في بحور العلم العميقة بلا قاع، الواسعة بلا شطآن.

ومن الغزالي رحمة الله عليه نستعير فكرة أن علم السياسة والشأن السياسي في عصرنا هذا ينبغي أن يكون من ضمن المضنون به على غير أهله، وأن يتم إلجام العوام عن الخوض فيه، فلقد أثبت “الخريف العربي” المشؤوم كيف قادت مجتمعاتنا عقليات، وآراء وسلوكيات العوام وأنصاف المتعلمين، فقد تم تدمير دول عربية كاملة، وتحطيم دول أخرى، وإحداث شلل كامل أو نصفي في ثالثة بسبب أن الأمور أوكلت للعوام، وتحرك المجتمع تحت قيادة العوام؛ الذين تم توظيفهم لخدمة خطط وأهداف جماعات، ودول ضد مصالح أوطانهم.

وقد يحتج البعض هنا بفكرة الديمقراطية، والحقيقة أن ما يحدث في مجتمعاتنا لا علاقة له بالديمقراطية، التي لها وسائل وأساليب وأوقات محددة للأخذ برأي عامة الشعب، وهذا الوقت مقصور على الانتخابات، وبعد ظهور نتائجها يحال الأمر إلى أهل الاختصاص، ولا تدار الدول بآراء العوام الذين يتدخلون بجهل مركب في موضوعات لا يعرفون كنهها، ولا يحيطون بتفاصيلها، ولا يدركون سياقاتها، ويستحيل أن يخطر على بالهم مآلاتها ومساراتها وما ستقود إليه، بالأمس صرح وزير خارجية الصين قائلاً “إن الديمقراطية ليست كوكاكولا”، وأوضح أنها ليست سلعة استهلاكية بسيطة يتذوقها الجميع، فلكل شعب ومجتمع تقاليده وأعرافه، وهو أدرى بما يناسبه من طرق وأساليب ممارسة الحكم، ومشاركة المجتمع.

إن من يتابع ما يدور في الفضاء الإعلامي بوسائله القديمة والجديدة من نقاش حول القضايا المصيرية التي تتعرض لها المجتمعات والأوطان يخلص إلى خطورة الوضع الذي وصل إليه الحال، وأننا في حالة من الفوضى في الإدراك والوعي الجمعي، وذلك لسببين أساسيين: أولهما، دخول العوام بكثافة في التحليل السياسي بوسائل متعددة منها الكتابة، والمقاطع المسجلة بالصوت والصورة، ومن مشاركة نصوص من مواقع مجهولة، كل ذلك في قضايا غاية في الخطورة والدقة، يحتاج فهمها إلى تخصص علمي دقيق يفني فيه الباحثون أعمارهم، ثم ينتشر بعد ذلك بفعل المجاملة والتشجيع، والعلاقات الشخصية، أو بفعل ظاهرة الألتراس الأيديولوجي، أو الحزبي، أو الكتائب الإلكترونية.

والسبب الثاني: أن أهل الاختصاص والخبرة يقع بعضهم تحت تأثير المتابعين، ولا يجرؤ على أن يخالف توقعاتهم، ويفاجئهم برأي مختلف بصورة كاملة؛ حتى وإن كان حقيقياً، وهذه الظاهرة أصبحت سائدة في جميع التخصصات والمجالات، فبفعل الرغبة في زيادة عدد المتابعين يضطر المتخصص في الشأن السياسي أو الشؤون الدينية ألا يصدم العامي برأي بعيد عن خياله المحدود، وبذلك دخلنا في حالة شعبوية تغلب العاطفة فيها العقل، وينتصر التفكير البسيط السريع المباشر على التحليل العميق المتخصص.

لذلك لا بد من عودة الاعتبار للمتخصصين الذين أفنوا أعمارهم في دراسة موضوعات بعينها، والتعمق فيها، وهذا دور وسائل الإعلام التقليدية من صحافة وفضائيات؛ حيث لا يفتح المجال للهواة الذين يتكلمون في كل شيء، ولا يتخصصون في شيء، وهنا يكون الانتماء للمراكز البحثية، والتخصصات العلمية والأكاديمية هو المقياس، وتتم محاسبة أية وسيلة إعلامية تسمح لغير المتخصص أن يضلل المجتمع، ويعطي معلومات غير حقيقية أو يوظف معلومات حقيقية في غير سياقها.

إن الدعوة لإلجام العوام عن السياسة والتحليل السياسي ليست ترفاً ولا تحيزاً؛ لأن الرأي المضلل وغير الحقيقي في الشأن السياسي أخطر من الرأي الطبي الصادر من غير المتخصص، لأن مجال علم الطب هو صحة الإنسان الفرد، ومجال السياسة هو سلامة واستقرار وأمن المجتمع والدولة، لذلك لا بد من مراجعة الواقع بصورة كاملة، والعمل على أن يكون الشأن السياسي من الشؤون المضنون بها على غير أهلها، حفاظا على مستقبل الأوطان، وأمن المجتمعات، وحماية الوعي الجمعي لمواطني الدول من أن يكون مجرد وسيلة لتبرير أرزاق مجموعات من الهواة والمتطفلين وغير المؤهلين، وهذا هو التقليد المتبع في جميع المجتمعات المستقرة؛ حيث لا تجد متحدثا في شأن سياسي داخلي أو دولي إلا إذا كان منتسبا إلى مركز أبحاث مرموق، أو جامعة لها وزنها وقيمتها.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى