سياسة

إشكاليات مستجدة أمام توقيع الاتفاق النووي

د. طارق فهمي


ما تزال الإدارة الأمريكية ترتبك في إدارة علاقاتها السياسية والاستراتيجية في الإقليم.

صحيح أنها تصرح بحرصها الكبير على مستويات الشراكة مع الدول العربية وإسرائيل، وأنها لا تريد المساس بأمن دول حليفة، لكنها ما تزال ماضية في مسار علاقاتها مع إيران لتوقيع الاتفاق النووي، بعد سلسلة من الاجتماعات المطولة والمتتالية، بهدف التوصل إلى اتفاق نهائي.

ما يصعّب الموقف أمام الإدارة الأمريكية هو استمرار الإشكاليات المتعلقة بتوقع نتائج ما سيجري من تطورات مفصلية.

أولها: إعلان الإدارة الأمريكية أن التوصل إلى اتفاق جديد بشأن البرنامج النووي الإيراني مرتبط باتخاذ طهران قرارات صعبة، وأن اتفاقا من هذا النوع ليس وشيكا ولا مؤكدا، وأن إحياء اتفاق عام 2015 يرتبط الآن باستعداد طهران لتمرير الاتفاق، فيما اعتبرت إيران أن التوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي مرتبط بإظهار واشنطن حسن نياتها للدخول في مرحلة الحسم.

كل طرف ما زال يبحث عن فرصة الجزم وجني الثمار بدلا من بقاء الأوضاع على ما هي عليه، خاصة بعد إعلان الاتحاد الأوروبي، الذي يتولى تنسيق المباحثات الهادفة لإحياء الاتفاق النووي، الحاجة إلى توقف في مفاوضات فيينا، بعدما كانت بلغت مراحل حاسمة، وبعد أن كان هدف مباحثات فيينا إعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق، خصوصا عبر رفع العقوبات، وامتثال إيران مجددا لكامل التزاماتها بموجب بنوده، بعد أن تقدمت الإدارة الأمريكية بطلبات جديدة، وتسببها في تعقيد التفاوض، لعدم اتخاذها قرارات سياسية مطلوبة، في حين راقبت الأطراف الأخرى المشاركة طلب روسيا ضمانات أمريكية مكتوبة بألا تؤثر العقوبات الغربية على موسكو -بسبب أزمة أوكرانيا- على تعاونها مع طهران في مجالات مختلفة، وهو ما أكده وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف من أن موسكو لن تعرقل المحادثات، التي يتوسط فيها الاتحاد الأوروبي في فيينا من خلال التمسك بمطالب غير واقعية للولايات المتحدة، فيما ركزت الدول الغربية على عودة إيران سريعا إلى تطبيق التزاماتها، وأكدت إيران أولوية رفع العقوبات، والتحقق من ذلك وضمان عدم تكرار الانسحاب الأمريكي مرة أخرى.
ثانيها: تطلب إيران من الإدارة الأمريكية أن تقدم ضمانات بألا يقوم أي رئيس أمريكي في المستقبل بالتخلي عن الاتفاق من جانب واحد.

ويكاد يكون من المستحيل على الولايات المتحدة الموافقة على هذا المطلب، كما ظلت الخلافات حول نطاق تخفيف العقوبات، ولكن الإشكالية الحقيقية في أن أحد الطرفين يخطئ التقدير من خلال المراهنة على أن الآخر لديه حاجة أكبر لإتمام الصفقة، مع تأكيد أن الإدارة الأمريكية ما تزال تبحث عن بدائل مع الحلفاء في الشرق الأوسط وأوروبا، في حين ظل الخطاب الإعلامي والسياسي والمعلن للإدارة الأمريكية بالتزام الرئيس الأمريكي جو بايدن منع إيران من امتلاك قنبلة نووية، سواء باتفاق مع طهران أو دونه.. مع تأكيد أن إيران ترتبط بعلاقات جيدة مع موسكو سياسيا واقتصاديا وعسكريا، كما أدت روسيا دورا أساسيا في التفاوض بشأن الاتفاق وخطواته التطبيقية، مثل نقل يورانيوم مخصّب من إيران إلى أراضيها، ودعم برنامج طهران المدني، مع التوقع بأن تسعى روسيا في الظروف الراهنة لاستخدام ورقة الاتفاق في التجاذب بينها وبين الغرب.

من الواضح إذًا أن المطالب الروسية عرقلت التوصل إلى الاتفاق في الفترة الأخيرة، ومنع إعادة إرساء الاتفاق، حيث من الوارد أن يكون هدف روسيا السعي للحصول على مهلة لإعادة تفعيل الاتفاق النووي لتأخير ضخّ النفط الإيراني في الأسواق، وقد أبدت إيران استعدادها أن تعيد صادراتها النفطية إلى مستويات ما قبل عام 2018، أي قبل إعادة فرض العقوبات الأمريكية، خلال شهر أو شهرين من إنجاز اتفاق في فيينا يتيح رفع العقوبات عن إيران، ومعروف أن العقوبات طالت قطاعات واسعة من الاقتصاد الإيراني، أبرزها تصدير النفط، الذي كان يشكّل موردا أساسيا لخزينة الدولة بالعملات الصعبة، مع التوقع أن عودة مستويات النفط الإيراني في الأسواق العالمية قد يسهم في خفض الأسعار، خاصة مع تأكيد طهران أولوية رفع العقوبات، والتحقق من ذلك وضمان عدم تكرار الانسحاب الأمريكي، وفي ظل تحسب الدول الغربية لضرورة الإسراع في إنجاز المباحثات، نظرا إلى أن الاتفاق قد لا يعود ذا فائدة في ظل تسارع الأنشطة النووية الإيرانية.

ثالثها: تتصاعد الأصوات المنتقدة في الكونجرس لما وصلت إليه المفاوضات، وسط تذمُّر المشرّعين من غياب الشفافية، وسعي الرئيس الأمريكي للعودة إلى الاتفاق مجددا، مع التوصل إلى اتفاق لدرجة أحدثت انقساما في فريق التفاوض الأمريكي، وذلك في إشارة إلى الاستقالات المتتالية من الفريق في محادثات فيينا، آخرها تهديد نيد شابيرو بالاستقالة، وهو أحد المفاوضين ضمن مجموعة التفاوض برئاسة روب مالي، وذلك بسبب تأكيد أن كل ما يفعله الاتفاق المرتقب هو وقف تخصيب اليورانيوم، وأن الاتفاق لن يوقف تطور البرنامج الصاروخي، ولن يوقف دعم الإرهاب، مع تأكيد أن إيران ستكون لديها المليارات التي يمكن أن يتم استثمارها في تطوير قدراتها التقليدية وبرامجها للصواريخ قريبة وطويلة المدى.

وهناك رأي مهم في الخارجية الأمريكية يرى أنه حال تم التوصل إلى اتفاق مع إيران، فإن إدارة الرئيس “بايدن” ستصبح في مقدمة الدول الراعية للإرهاب.. وسيتم توظيف مليارات الدولارات، التي سهّلت الإدارة الأمريكية الإفراج عنها، لمواجهة الشعب الأمريكي، كما بقيت مخاوف الكونجرس مطروحة من احتمال إقدام الإدارة الأمريكية على رفع “الحرس الثوري” من لوائح الإرهاب، وتضمنه في الاتفاق برغم التأكيد الأمريكي العام بأن “الحرس الثوري الإيراني” منظمة إرهابية ويجب أن يبقى على لوائح الإرهاب العالمي، وبرغم كل ذلك فهناك تخوف من أن تتخطى الإدارة الأمريكية الكونجرس، ولن تسعى إلى الحصول على موافقته حال التوصل إلى اتفاق نهائي، كما فعلت إدارة الرئيس الأسبق أوباما.

رابعها: تصاعدت انتقادات النواب الإيرانيين والتحذير من التوصل إلى الاتفاق، مع التركيز على أنه من المهم التوصل إلى اتفاق جيد “يحافظ على الكرامة الوطنية ويضمن المصالح الاقتصادية”.

وبرغم طرح النواب، فإن دور البرلمان الإيراني غير حاسم في الاتفاق النووي، ومن المستبعد أن يؤثر على مسار الاتفاق الجديد، نظراً إلى خضوع القرار النووي للمرشد والمجلس الأعلى للأمن القومي الخاضع لصلاحياته.

ومعلوم أن الاتفاق المحتمل يطالب إيران بوقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 و60%، وعدم السماح لإيران سوى بامتلاك 2.5 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، ووقف إنتاج وتركيب أجهزة طرد جديدة، مقابل أن يُسمح لإيران أن تصدر ما يصل إلى 50 مليون برميل نفط في غضون 45 يوماً.

وتبقى الإشارة إلى أن خطة الميزانية العامة الإيرانية وُضعت على أساس افتراض أن العقوبات الأمريكية ستستمر.. ولكن في المجمل فإن فشلاً محتملا للمساعي الرامية إلى استعادة اتفاق عام 2015، الذي قد يكبح برنامج إيران النووي، في مقابل رفع العقوبات، سينذر بمخاطر، بل وزيادة التوتر السياسي والاستراتيجي في الشرق الأوسط ومزيد من الصعود في أسعار النفط.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى