سياسة

إدلب ومأزق أردوغان الكبير


تقلصت خيارات أردوغان في منطقة إدلب ومحيطها إلى حدودها الدنيا على المستويين العسكري والسياسي وبات أمام واحد من خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يستمر في مسلسل مراوغاته ويذهب بعيدا في الانزلاق في المستنقع السوري شمالا ويصبح في مواجهة مباشرة مع الجيش السوري مجدداً ويتحمل أعباء المواجهة عسكرياً وسياسياً كما حدث منذ شهرين خلال هجوم القوات السورية على جنوده في نقاط المراقبة وما رافقها من انتكاسة له ولجيشه المحتل.

أما الخيار الثاني أن ينصاع وينفذ بنود الاتفاق الذي وقعه مع نظيره الروسي في مارس/آذار الماضي، وهو امتداد لاتفاق سوتشي، والقاضي في أحد بنوده بأن يلتزم الجانب التركي وجيشه بالقضاء على الفصائل الإرهابية التي يرعاها والمنتشرة في بعض مدن وبلدات إدلب وريفها وتعمل بغطاء منه، ومن ثم يعمل على توفير مستلزمات الأمن لإعادة فتح الطريقين الرئيسيين بين حلب ودمشق وحلب واللاذقية وفقا لنص الاتفاق. 

ليس إقدام أردوغان على الزج بآلاف الجنود من قواته وبرفقتهم بضعة آلاف من العربات والمدرعات والدبابات والرادارات العسكرية في إدلب السورية ومحيطها وبعض مناطق حلب مغامرة تحدٍّ عسكريّ من قبله للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد لقائهما في موسكو في شهر مارس/آذار المنصرم والاتفاق على وقف إطلاق النار هناك، ثمة إرهاصات تشير إلى احتمال نشوب مواجهة عسكرية قادمة باتت تفرضها عدة وقائع ومستجدات على الأرض تراكمت نتيجة الحسابات الخاطئة لأردوغان، من بينها أنه لم يعد بإمكانه الإفلات من تعهداته أو التملص منها في إدلب ومحيطها بعد سنوات من المراوغة سعى من خلالها للمحافظة على مجموعاته الإرهابية التي رعاها ودربها وسلحها ووظفها في أماكن وأوقات متعددة داخل سوريا وخارجها. 

على أرض الواقع بدأت الأحداث تأخذ منحى مختلفا يتعارض مع حسابات أردوغان، وتصعيديا ضده وصل إلى إقدام مجموعات إرهابية من مؤيديه على الاشتباك المسلح مع عناصر من الجيش التركي عندما شرعوا في تنفيذ بنود اتفاق موسكو الأخير بشأن تسيير دوريات مشتركة مع الجانب الروسي وتأمين مسافة أمان على جانبي كل طريق تصل إلى اثني عشر كيلومترا لضمان عودتهما للعمل بأمان.

هذه المواجهات، وإن كانت محدودة، أتاحت رؤية سياق آخر للمشهد الناشئ وقد بدا مثيراً للكثير من الاستفهامات والأسئلة حول دوافع أنقرة وتكثيف خطواتها والزج بآلاف من جنودها وعتادها العسكري إلى تلك المناطق ومحيطها التي تسيطر عليها مجموعات إرهابية مرتبطة بها أساسا.

لكن سرعان ما اتضح أن أردوغان أمام تحدٍ حقيقي من صنع يده هذه المرة، أي من قبل الإرهابيين أنفسهم الذين هم بحضانته حتى الآن، وقد اكتشفوا أنهم ليسوا سوى جزء من بازاراته، وأن الطرفين، أردوغان وتابعيه من الإرهابيين، يتربصان ببعضهما، ووصلا إلى نهاية مسرحية تبادل الأدوار والوظائف، ولم تعد المصالح مشتركةً بينهما، بل أضحت متعارضة ولا بد لأحد الطرفين من إزاحة الآخر عن طريقه لضمان استمرار مصالحه.

وعليه يمكن تفسير الاستعدادات الجارية للمواجهة الحاسمة بعد استكمال جميع أدواتها ومقوماتها وإمكاناتها وهو ما يلوح في الأفق في ظل معطيين، الأول قيام الجيش التركي بعمليات تغيير واسعة في صفوف الجماعات الإرهابية العاملة بإمرته في تلك المنطقة، وإلقاء منشورات باسم الجيش التركي على إدلب تطلب فيها أنقرة من السكان المحليين عدم مساعدة من وصفتهم “بالجماعات الإرهابية” ودعم الجيش التركي في عمليته لفتح الطريقين  إم 4 وإم 5، وذلك في أوضح إشارة على تنامي الخلافات بين الجانبين ووصولها إلى نقطة اللاعودة بينهما.

والمعطى الثاني ارتفاع نبرة التحدي من قبل المجموعات الإرهابية ذاتها ضد سياسة سيدها العثماني ونهجه الرامي إلى تصفيتهم بطرق مختلفة، تزامنت مع انتشار أنباء عن اقتراب ساعة المواجهة بينهم وبين رعاتهم الأتراك.

السؤال المطروح الآن: متى تنتقل أنقرة إلى الهجوم على المجموعات الإرهابية التي رعتها طيلة سنوات بعد أن انتهى دورها في حسابات أردوغان وأصبحت عبئاً واقعياً واستراتيجياً عليه؟ وهل يستطيع أردوغان وحده نزع الأشواك التي بذرها بيده؟

الوقت المقترح لتنفيذ الاتفاقات مع موسكو لم تلتزم به أنقرة حتى الآن، والعقبات التي تعترض تنفيذها هي من صناعة أردوغان ذاته منذ أن رعى المجموعات الإرهابية وساندها، وهو اليوم يجد نفسه في مواجهة مباشرة مع تلك الجماعات الإرهابية التي تبناها ولم يعد بمقدوره الاستمرار إلى ما لا نهاية في توفير الغطاء لهم، على الطرف المقابل تدرك المجموعات الإرهابية ذاتها أن سيدها العثماني ما عاد قادراً على الاستمرار في تبنيهم أمام المجتمع الدولي.

وإذا كان أبعد بضعة آلاف منهم إلى ساحات القتال في ليبيا بإغراءات مزيفة وتحولوا إلى مرتزقة، فإنهم باتوا يدركون أيضا أن ما تبقى منهم برعايته يفيض عن حاجاته ونزعاته التوسعية، ويفيض أيضا عن طاقته وقدرته على استيعابهم واحتضانهم داخل بلاده وهو يواجه تحديات داخلية متعددة ولا بد من التخلص منهم، علاوة على أن الاستحقاقات الضاغطة عليه والمطالبة بإنهاء الوجود الإرهابي الذي يرعاه في شمال سوريا وصلت إلى مراحل متقدمة من الإجماع الدولي.

أمام هذه المعادلة يصبح التسليم من قبلهم، أي الإرهابيين، لسيدهم العثماني دون مكاسب أمراً غاية في الصعوبة بعد الخدمات الكبيرة التي قدموها له، وهذا يضعهم أمام سبيل من اثنين؛ فإما الاستسلام بلا قتال وبالتالي لا مكاسب، مقابل الحفاظ على أرواحهم وتوزعهم لاحقا على المنافي، وهو أمر مستبعد نظراً لتعدد أجنداتهم وتباين أهدافهم وتعارض أيديولوجياتهم، وإما مواجهة وقتال جيش سيدهم الذي حشد من القوات والسلاح ما يؤذن بعملية عسكرية ضدهم. 

أياً تكن نتائج ومخارج المعركة التي تلوح في الأفق بين المجموعات الإرهابية وراعيها الأساسي، فهي صفحة أخرى من صفحات انتكاسة أردوغان وخسائره، وستكون لها تداعيات واسعة عليه في الداخل التركي وعلى مجمل توجهاته خارجيا.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى