سياسة

أي حساب تبحث عنه تركيا في القوقاز؟


نشب الصراع الذي كانَ من المتوقع أن ينشب في أي لحظة. كان ذلك يوم الأحد الماضي. الطرفان شحيحان في صدقية الأخبار. الطرفان أعلنا حالة الطوارئ. لكن أذربيجان قطعت خطوط الإنترنت. سقط مدنيون قتلى. أذربيجان تقول إنَّها حررت مناطق في ناغورنو كاراباخ. أرمينيا تنفي. العالم دعا إلى التهدئة. مجلس الأمن اجتمع. لكن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قال: كفى… حان وقت الحساب. فرد الرئيس الأرميني أرمين ساركيسيان: لن نسمح لشبح العثمانية بأن يرتكب إبادة جديدة في حقنا! وكان يتهم أنقرة بإرسالها جنوداً أتراكاً، لكن مصادر أفادت بأن العاصمة التركية نقلت نحو 300 سوري غالبيتهم من ميليشيات «فرقة السلطان مراد» و«لواء السلطان سليمان شاه». قيل لهم إن وجهتهم أذربيجان بحجة حماية مواقع حدودية ومقابل مبلغ مالي يتراوح بين 1500 و2000 دولار شهرياً، والحقيقة أن المبلغ هو فقط 600 دولار.
تركيا إردوغان تتدخل في دول مستقلة وذات سيادة: ليبيا، وسوريا، فما بالك بإقليم كاراباخ… لذلك فلن ينتهي الصراع عليه، وقد يؤدي إلى حرب عبثية في القوقاز، إلا إذا أصبحت ناغورنو كاراباخ دولة مستقلة يعترف بها كل العالم، على الأقل تجنباً لمجزرة جديدة، خصوصاً بعدما أعلنت تركيا وقوفها في الحرب إلى جانب أذربيجان.
بعد الثورة البولشفية في روسيا، أصبح كثير من دول القوقاز جمهوريات سوفياتية في أوائل العشرينات من القرن الماضي. وأبقت الهيمنة السوفياتية على كل المنطقة والتوترات في ناغورنو كاراباخ تحت السيطرة حتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي. مع انهيار النظام السوفياتي، بدأ أرمن كاراباخ في الحث على الوحدة مع أرمينيا. عام 1991 حصلت كل من أذربيجان وأرمينيا على الاستقلال من الاتحاد السوفياتي، لكن سرعان ما اندلع الصراع العسكري بينهما في غياب العامل العسكري السوفياتي لمنع العنف. كانت نسبة المواطنين الأرمن في كاراباخ 76 في المائة في ذلك الوقت، فصوّت البرلمان لصالح الاتحاد مع أرمينيا. تفكك الاتحاد السوفياتي في 31 ديسمبر (كانون الأول) 1991، وأعلنت كاراباخ استقلالها عن أذربيجان في 6 يناير (كانون الثاني) 1992.
وهكذا اندلع القتال على نطاق واسع عام 1992 حيث تم جلب المرتزقة الروس والأوكرانيين والشيشان والأفغان لدعم الجيشين الأرميني والأذري. بحلول 1994 كان كلا الجانبين مستعداً للمحادثات، فكان بروتوكول «بيشكيك» الذي رعته روسيا، ورسم خط وقف النار الذي ترك 9 في المائة من أراضي أذربيجان ضمن جمهورية كاراباخ؛ الدولة التي تعترف بها أرمينيا فقط وصار اسم المنطقة منذ ذلك الحين: جمهورية ارتساخ.
بحلول عام 2008 أدت زيادة عائدات النفط والغاز في أذربيجان إلى قلب التوازن العسكري لصالحها، وبدأت الاشتباكات تندلع بشكل أكثر انتظاماً، ثم حدثت خروقات لوقف إطلاق النار في الأعوام 2008 و2010 و2014 و2016، وآخرها هذا العام.
تعدّ تركيا الداعم الرئيسي لأذربيجان في المنطقة، ورفضت التطبيع أو إقامة علاقات دبلوماسية مع أرمينيا تضامناً مع الأذريين بسبب كاراباخ، كما أن الحدود الأرمينية – التركية مغلقة منذ عام 1993. تم التوقيع على بروتوكولين ثنائيين بين تركيا وأرمينيا في زيوريخ عام 2009 بهدف تطبيع العلاقات بين البلدين. وفتحت الحدود والتقى الشعبان على الحدود، لكن البروتوكولين تعرضا لانتقادات محلية شديدة في كلا البلدين، ولم يتم التصديق عليهما من قبل الهيئات التشريعية في أي من البلدين. وظلت مجزرة تفرق بينهما.
من جهة أخرى، كانت العلاقة بين أذربيجان وتركيا تسير في اتجاه تصاعدي منذ استقلال أذربيجان بعد الاتحاد السوفياتي السابق، ويمكن القول إنها في ظل إردوغان والرئيس الأذري إلهامي علييف وصلت إلى ذروتها. إن الدعم المطلق من قبل القادة الأتراك لأذربيجان في خضم نزاعها مع أرمينيا، والتدريبات المشتركة اللاحقة والتدريبات بين قواتهما المسلحة والزيارات المتبادلة المتكررة لكبار المسؤولين بغض النظر عن الوباء المتفشي، هي بعض النقاط البارزة في العلاقات الثنائية بين البلدين في الأشهر الأخيرة.
تشيد الدولتان الناطقتان باللغة التركية بروابطهما تحت شعار: «أمة واحدة – دولتان»، وتشعران بضرورة التعامل مع التهديدات الأمنية المشتركة التي تشكلها بنظرهما تهديدات أرمينيا الإقليمية، والوجود العسكري الروسي، والمصالح الأمنية في جنوب القوقاز.
المشكلة أن تركيا تعاني من الحساسية الروسية. لكن أرمينيا تستضيف قاعدة عسكرية روسية في غيومري؛ وهي مدينة تبعد 10 كيلومترات عن الحدود التركية التي من المفترض أن تخدم، من بين أمور أخرى، هدفاً روسياً لممارسة الضغط على تركيا من حدودها الشرقية، ويصح هنا القول إن أرمينيا لم تكن لتتمكن من الحفاظ على سيطرتها على منطقة ناغورنو كاراباخ والمناطق المحيطة بها من دون الدعم العسكري الروسي.
كانت التهديدات موجودة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، لكنها اكتسبت زخماً مؤخراً في أعقاب الهجمات العسكرية في ما بين 12 و15 يوليو (تموز) الماضي من قبل القوات المسلحة الأرمينية على منطقة توفوز في أذربيجان؛ حيث توجد جميع طرق النقل والطاقة، مثل خط أنابيب النفط: باكو – تبليسي – جيهان، وخط أنابيب الغاز: باكو – تبليسي – أرضروم، وخط السكة الحديد باكو – تبليسي – كارس الذي يربط أذربيجان بتركيا، إضافة إلى تهديد إمدادات الأسلحة الروسية المتزايدة إلى أرمينيا في أعقاب تصعيد توفوز.
الرئيس إردوغان يتمدد؛ لكنه يجابه بحدة. أميركا تفكر الآن في نقل قواتها وأسلحتها وطائراتها من قاعدة «إنجيرليك» الأميركية من تركيا إلى جزيرة كريت اليونانية بسبب تمدد تركيا إلى نفط شرق البحر المتوسط. تمدد إردوغان إلى سوريا فواجهته روسيا، وكذلك فعلت في ليبيا. قد يكون هو من حرك جبهة كاراباخ رداً على الهجوم الأرميني على توفوز نقطة لقاء النفط والغاز وخط السكة الحديد… وكلها تستفيد منها تركيا.
لإبراز أهمية التقارب التركي – الأذري وقع البلدان «اتفاقية الشراكة الاستراتيجية والدعم المتبادل» عام 2010، وتضمنت بنداً مشابهاً للبند الخامس في «الحلف الأطلسي»، والذي، تماشياً مع المادة «51» من ميثاق الأمم المتحدة، يلزم كلا الطرفين بالتعاون والتنسيق عندما يواجه أي منهما عدواناً من دولة ثالثة أو مجموعة من الدول، كما توفر الاتفاقية الأساس القانوني لتوسيع التعاون العسكري، بما في ذلك التدريبات العسكرية المشتركة المنتظمة في كلا البلدين.
وإلى جانب توسيع الشراكة الاقتصادية، أصبحت أذربيجان هذا العام أكبر مورد للغاز الطبيعي للسوق التركية، وعزز البلدان شراكتهما في توريد الأسلحة والمعدات العسكرية الأخرى. وكانت أذربيجان أعلنت عن اهتمامها بالحصول على طائرات «درون» التركية التي أثبتت فاعليتها في عمليات أنقرة العسكرية في ليبيا وسوريا. وتوصل البلدان إلى صفقة بقيمة 200 مليون دولار لبيع الطائرات التركية من دون طيار إلى أذربيجان، وحسب محللين أذريين، فمن المرجح أن تحتل تركيا مكانة روسيا بوصفها ثاني أكبر مصدر للأسلحة إلى أذربيجان، بعد إسرائيل.
وكان إردوغان أدان الهجوم على الوحدات العسكرية الأذرية في توفوز، ووصفه بأنه أكبر من قدرة أرمينيا، في انتقاد ضمني لدور روسي محتمل.
من جهة أخرى، وفي أعقاب التدريبات العسكرية للقوات المسلحة الأرمينية والروسية والتي عُدّت رداً على اشتباكات يوليو الماضي، أعلنت أنقرة وباكو إجراء مناورات عسكرية مشتركة كان من المقرر أصلاً أن تستمر 13 يوماً (29 يوليو – 10 أغسطس/ آب)، لكنها ما زالت مستمرة حتى الآن، وإن كانت على نطاق أصغر. ونفت وزارة الدفاع الأذرية أن تكون هذه المناورات رداً على المناورات الروسية ــ الأرمينية، وقالت إنها أجريت وفقاً «لاتفاقية الشراكة الاستراتيجية والدعم المتبادل» الموقعة عام 2010، وفعلاً يجري البلدان تدريبات عسكرية سنوية منذ توقيع تلك الاتفاقية، ولكن مع ازدياد شهية إردوغان لتوسيع نفوذه، فقد أجرتا العام الماضي مناورات عسكرية مكثفة بلغ عددها 13؛ أي بزيادة ملحوظة على (7 تدريبات) عام 2018.
يبدو أن الدعم التركي قد شجع أذربيجان على مواجهة أرمينيا بشكل أكثر حزماً، والأهم من ذلك أن باكو صعّدت مؤخراً معارضتها القوية ضد إمداد روسيا أرمينيا بالأسلحة، والتي بدأت منذ اشتباكات يوليو الماضي، ولم تتوقف بعد.
هل تشتعل جبهة القوقاز؟ روسيا تراقب وعلى أهبة الاستعداد. إيران حذرت من سقوط القذائف داخل أراضيها. إردوغان يقول: حان وقت الحساب! المعارضة التركية اتهمته بتوريط تركيا في مخاطر أكثر… الليرة التركية ازداد انهيارها. والأرمن فهموا «وقت الحساب»؛ مجزرة جديدة! وتبحث المجموعة الأوروبية في مؤتمرها المقبل فرض عقوبات على تركيا.

نقلاً عن “الشرق الأوسط”

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى