من شأن تطورات الأزمة الأوكرانية المتتالية أن تغير معادلات دولية كثيرة كانت توحي بأنها تسير نحو الرسوخ والثبات.
وربما ستُغير الأزمة معطيات قضايا يعاني منها العالم منذ أكثر من عقود، خاصة التعامل مع الإرهاب والمليشيات.
إن استغراق العالم في متابعة التطورات المباشرة المصاحبة لأزمة أوكرانيا بسبب تلاحق وتدفق الأحداث، غيّب متابعة لقطات ومشاهد في الأزمة كانت جديرة بالانتباه والتوقف عندها، لعل من أبرزها تطورات وطريقة إدارة الأزمة، التي تسير بوضوح في اتجاه معاكس للتيار الصاعد في العالم من طموح إنساني متفائل بسيادة روح التعاون وتغليب لغة الحوار والنقاش على التفاعلات والعلاقات بين الشعوب والدول.
فأزمة أوكرانيا سارت بالعالم عكس ما رأينا وما أوحت به أزمة انتشار فيروس كوفيد-19 ومتحوراته، التي دخل العالم خلالها حالة غير مسبوقة من التعاون والتنسيق على المستويات كافة، بما في ذلك بين دول علاقاتها متوترة بل و”عدائية”.
وتماشى هذا التوجه الإيجابي مع بوادر تعاون في أزمات ومشكلات ذات طابع عالمي، مثل تغير المناخ والاحتباس الحراري، وتلوث البيئة، بالإضافة إلى مواجهة الإرهاب ومكافحة الهجرة غير الشرعية، التي فجّرت هي الأخرى أزمات أخرى.
لكن أزمة أوكرانيا تقول مجرياتها بوضوح إن منطق القوة لا يزال يحكم العالم، وليست القوة بمعناها العسكري وحده هي المقصودة، فقد تجسَّدت واستُخدمت في هذه الأزمة صورٌ من القوة متعددة الدرجات ومتنوعة الأشكال، حيث تم حشد القوى الناعمة، مثل الإعلام ووسائله الجديدة، والرياضة، بينما لعبت القوى المختلطة، المتمثلة تحديداً في العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية، دور “البطل” في إدارة الأزمة، خاصة من جانب الغرب.
لكن القوة الخشنة لا تزال هي الأداة الأبرز حتى الآن عالميا، ورغم إجراء مباحثات بين الجانبين الروسي والأوكراني، إضافة إلى مظاهر محدودة للتواصل بين دول غربية وموسكو، فإن الحضور والتأثير الفعلي لهذه المظاهر التفاوضية يكاد يكون ظاهرياً فقط بلا مردود حقيقي على مجريات الأزمة.
الأزمة تعطي إشارات سلبية للعالم بشأن جدية الدول الكبرى، خصوصاً فيما يتصل بتغليب التفاوض والحوار وروح التعاون لحل المشكلات، خاصة تلك التي تلامس بشكل مباشر أمن الشعوب أو مصالحها الحيوية.
لقطة أخرى جديرة بالرصد، وهي أن الأزمة أساسا ليست عالمية وشعوب العالم لم تكن سبباً في اندلاعها، إلا أن أصداءها ترددت بعد ساعات فقط في مختلف أنحاء الكرة الأرضية، وهو ما يعني أن تداعيات الأزمة، أياً كان ما ستسفر عنه والكيفية التي ستنتهي بها، ستتأثر بها دوائر متتالية من سكان الأرض.
وتتنوع أشكال ودرجات التأثر من دولة إلى أخرى، إذ ستعاني دول من توقف أو تقلص الصادرات الروسية والأوكرانية، القمح والغاز والنفط على سبيل المثال، فيما سيُربك ارتفاع أسعار النفط حسابات وموازنات الدول المستهلكة.
في هذه اللحظة، تواجه دول العالم كافة ضغوطاتٍ واختبارات سياسية لجهة تبنّي موقف مع أو ضد أي من طرفي الأزمة الرئيسيين، الولايات المتحدة -وليس أوكرانيا- وروسيا.. وهكذا تجد معظم دول العالم نفسها صارت طرفاً في الأزمة بشكل أو بآخر.
بقيت نقطة أخيرة وخطيرة جداً، وهي مسألة استدعاء مرتزقة ليحاربوا على أرض أوكرانيا، فهذه المسألة من شأنها أن تفتح بؤرة جديدة لنزاع مسلح مختلف ستتأثر به كل المجتمعات المستقرة في العالم، وستعيد كل الجهود الدولية في محاربة الإرهابيين إلى المربع الأول، بل وستكون الدول الأصلية لهؤلاء المرتزقة هي على رأس أهدافهم بعد أن ينتهي النزاع الأوكراني.
قرار الاستعانة بـ”متطوعين” أو “لواء دولي” أو “مرتزقة” أو أيا كانت تسميتهم، يعني الاستعانة بـ”إرهابيين” سيرتد خطرهم على من حرَّكهم بعد انتهاء النزاعات كما يقول لنا التاريخ.