سياسة

أفغانستان واليوم التالي


يطرح الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان فرضيات متعددة لمرحلة ما بعد إتمام الخروج الأمريكي من هذه الدولة.

التي شكلت على مدار تاريخها المعاصر نقطة جذب وتصادم لسياسات ومصالح الدول الإقليمية القريبة منها والمحيطة بها، وكذلك الدولية، وتحولت في مرحلة من المراحل إلى ساحة صراع دولي عبر وكلاء محليين باعتبارها معياراً للسيطرة والهيمنة على مجمل المشهد في تلك المنطقة والتأثير في مشهد العلاقات الدولية برمتها.

التكهنات بشأن اليوم التالي لا تقتصر على الوضع الداخلي، حيث حركة طالبان ومسلحوها يتمترسون خلف حصونهم الأيديولوجية ومشاريعهم العسكرية وفلسفات نظام حكم خاص بهم، وحيث تشير أيضاً كثير من الملامح إلى وجود بؤر لتنظيمات إرهابية كالقاعدة وداعش في بعض المناطق، علاوة على تكتلات قبلية مسلحة وكلها لا تزال تتحيّن فرصة الظفر بالسلطة والسيادة على البلاد أو على جزء منها، تقابل ذلك حكومة منتخبة تفرض سلطتها على جزء من البلاد بدعم خارجي وتخوض مواجهات ومعارك مع بعض فلول “طالبان” في عدة محاور من البلاد، دون أن تتمكن من تحقيق نصر حاسم عليها.

المعادلة القائمة لا تستوفي أدنى مقومات الثبات أو التوازن على الصعيد الداخلي، ولا تمتلك أدنى معايير القوة على الصعيد الوطني. العنوان الأبرز المتوقع للمشهد الأفغاني غداة إتمام عملية الانسحاب الأمريكي هو الترقب. كيف سيتصرف اللاعبون في الداخل؟ من منهم سيكون الأكثر استعداداً لقبول منطق التعايش مع الآخر؟ هل يمكن للجانب الرسمي ضبط إيقاع التحول القسري الذي فرضه الانسحاب الأمريكي والغربي من البلاد؟ من هي القوى الأكثر استعداداً وقدرة لملء الفراغ الذي سينشأ محلياً عقب الانسحاب الكامل؟ كيف سيكون رد فعل الدول المجاورة لأفغانستان على الجلاء الأمريكي الغربي؟ أي من القوى الدولية المعنية بالملف الأفغاني لها المصلحة في الانخراط أكثر من غيرها فيه مجدداً؛ وكيف؟ هل تتمكن تلك الدول مجتمعة أو منفردة من إدارة أزمة الفراغ الناشئ في بلاد تتنازعها العديد من التوجهات والتيارات والولاءات الخارجية؟ .. الأهمية السياسية والجغرافية لأفغانستان لا تنبع من عواملها الذاتية ولا من مخزوناتها وثرواتها الطبيعية فقط، بل تتأتى من بُعد خارجي متمثل بحجم ومصالح القوى الدولية المعنية بها بحكم الطبيعة والجغرافيا والسياسة والمصالح الحيوية والاستراتيجية؛ تحدّها باكستان من الجنوب والشرق، تحدها إيران من الغرب، تحدها تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان من الشمال، وهذه الدول تعتبرها روسيا حزاماً لحدودها الجنوبية، لها حدود مشتركة مع الصين في أقصى الشمال الشرقي، كما أنها قريبة جداً من الهند، ولقربها من هذه الدول الإقليمية الرئيسية العملاقة، تحظى أفغانستان بقيمة استراتيجية كبيرة لدى واشنطن وحلفائها الغربيين.

لا يمكن القفز فوق حقيقة أن القرار الأمريكي بالانسحاب تنفيذاً لاتفاقية بين “طالبان” والأمريكيين جاء تلبية لمصالح أمريكية، وبعيداً عن بواعثها الظاهرية والرتوش العاطفية التي وضعتها إدارة بايدن عليها شكلاً ومضموناً، فإن مسألة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وهي في ظل واقع داخلي مشتت وغير متجانس؛ تثير تكهنات عن الغاية الأمريكية المضمرة وراء ذلك. تصنف واشنطن بعض الدول التي يمكن أن تتنافس على ملء الفراغ بعد إتمام انسحابها من أفغانستان في خانة الأعداء، وإذا كان هاجس إدارة بايدن بأن الصين وروسيا هما التحدي الأكثر إقلاقاً لبلاده حاضراً ومستقبلاً، فهل يجوز التكهن بأن الإدارة الأمريكية ترمي في أحد أهدافها إلى استدراج هاتين الدولتين المنافستين لها إلى المستنقع الأفغاني لاحقاً والتورط فيه؟ مع الأخذ بعين الاعتبار وجود باكستان والهند، الجارين اللدودين، على تخوم تلك الساحة المرشحة للاضطراب.

تعقيدات المشهد الأفغاني الماثل لا تعني انعدام فرص التوافق والتكامل بين القوى الدولية المرشحة للتنافس على أفغانستان في مرحلة ما بعد الوجود الأمريكي، فالصين لها خطوطها مع الحكومة الأفغانية الحالية ولديها طموحاتها في توسيع نفوذها وهيمنتها عبر سلاحها الناعم؛ أي الاستثمار الاقتصادي والتجاري، وهي تدرك أن مشروعها الناعم لا يمكن تحقيقه إلا بشرط الاستقرار الأمني في البلاد، وهو ما يمكن أن توفره الجارة باكستان ذات اليد الطولى في أفغانستان، بحيث تكون مؤهلة لتقاسم المصالح مع بكين والعمل مع حلفاء كروسيا وإيران والهند لتشكيل ورشة عمل تصون مصالح الجميع ضمن توافقات واتفاقات محددة لا تطغى فيها النزعات الفردية على مصلحة العموم، وقد يكون ذلك المنحى بديلاً مهماً عن ملامح التوتر التي يرسمها الانسحاب الأمريكي، أي يمكن تحويل التوتر المفترض من صراع على النفوذ والمصالح إلى فرصة تعاون إقليمي غير مسبوق، خاصة أن تلك الدول تلتقي عند محور المناكفة مع واشنطن في قضايا ثنائية ودولية متعددة.

على الطرف المقابل قد تفجر الحالة الأفغانية صراعاً إقليمياً بسبب وجود طموحات للهيمنة والنفوذ لدى جميع اللاعبين المعنيين بالشأن الأفغاني كالصين والهند وروسيا وإيران وباكستان. وحده خطر الجماعات الإرهابية عامل مشترك يهدد مصالح واستقرار جميع تلك الدول، ويقرّب بينها.

تبدو خيارات الداخل الأفغاني في ظل الواقع القائم محكومة بمنطق مصالح الدول المعنية به إلى حد كبير. من الضروري النظر بكثير من الاهتمام إلى التحولات التي يشهدها جوار أفغانستان على مستوى السياسي الداخلي، وعلى مستوى علاقات كل دولة على المسرح الدولي، وما يعني ذلك من تبدل في الأولويات، وتقديم أو تأخير مصالح هنا وأخرى هناك، وطبيعة الأدوار التي تتصدى لها مستقبلاً. تجارب العقود الزمنية الأخيرة برهنت على أن تعدد القوى والتيارات الأفغانية حمل وجهين: أولهما أسهم وكرّس حدة الانقسامات بجميع أشكالها القبلية والسياسية والجغرافية والأيديولوجية، أما الآخر فمنح القوى الخارجية فسحة للتأمل وإدارة مصالحها بناء على تحولات خرائط الميدان على الأرض الأفغانية التي ظلت لفترات طويلة غير قادرة على الاستقرار النهائي والحاسم. أفغانستان مجدداً؛ ساحة اختبار جدي وفعلي شرّعها الانسحاب الأمريكي على مآلات واحتمالات مفتوحة.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى