سياسة

أطماع إيران وتركيا.. ماذا بعد سقوط البوابات العربية؟


يمكن القول إنّه جرى نوع من المقايضة التاريخية، بتموضع الأيديولوجيا الدينيّة بشقيّها السنّي /الشيعي، محل التوجهات القومية، مع تفكك الأعمدة المركزية للمشروع العروبي، وسقوط حماة البوابات في كل من العراق وسوريا، نتيجة لعدة عوامل، يعيدها كثيرون إلى سياسات الأنظمة الدكتاتورية، بالإضافة إلى ترتيبات دولية وإقليمية، استهدفت إعادة تشكيل الشرق الأوسط.

هيأت أحداث “الربيع العربي” بيئة مناسبة للتدخل الخارجي، والذي جاء من الأطراف باتجاه مركز الثقل الجغرافي؛ متمثلاً في مخلب تركي تحركه أحلام الخلافة العثمانية، وآخر إيراني رفع رايات الولي الفقيه، ليجري تقويض آخر ما تبقى من فاعلية أدائية لمفهوم القومية العربية، بتوظيف المقولات الدينيّة، وإحلال خطابها الشمولي، محل شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية، التي نادت بها ثورات “الربيع”، ما فتح عدة ثغرات في محيط الكتلة العربية، كنظام إقليمي.

إيران تمر عبر بوابة الشرق المحطمة

مع سقوط نظام البعث العراقي، العام 2003، نجحت إيران في وضع يدها على مقدرات العراق، بدعم من المرجعيات الشيعية، وبواسطة وكلائها وخلاياها النائمة، لتسقط البوابة الشرقية، التي طالما تصدّت لأطماع الملالي تجاه المنطقة العربية.

ارتبطت الهيمنة على العراق، بنظرية الأمن القومي الإيراني، فبحسب تقرير لمؤسسة راند الأمريكية فإنّه “من المنظور الإيراني، من الأهمية بمكان أن تظل العراق دولة صديقة وسلسة الانقياد، تدعم مصالح الأمن القومي الإيراني، وتود الدولة الشيعية في إيران، أن تتأكد من عدم تحول العراق ومؤسساته الدينية إلى خطر؛ يهدد مفهوم إيران للحكم الديني، أو ولاية الفقيه”.

وفي ظل الهيمنة السياسية والاستخباراتية، انتهزت طهران ظهور تنظيم داعش؛ لتتمدد عسكرياً في الداخل العراقي، حيث ثبت انخراط عناصر من القوات الجوية التابعة للحرس الثوري، وميليشيا فيلق القدس في معارك الموصل ضد تنظيم داعش، وذلك تحت القيادة المباشرة للجنرال قاسم سليماني، الذي أدار غرفة العمليات العسكرية من قلب الأراضي العراقية، كما حرصت إيران على نشر المئات من عناصر الحرس الثوري في عدة مدن عراقية، بالإضافة إلى توطيد التعاون العسكري مع قوات البيشمركة الكردية في الشمال.

في المقابل، تذرعت تركيا بالمسألة الكردية، لتضع قدماً في الأراضي العراقية، وعلى الرغم من افتقارها لما تملكه إيران من علاقات وثيقة بمرجعيات دينية وقيادات سياسية في الداخل، حاولت تركيا اختراق المجال السياسي العراقي، بدعم الائتلاف الوطني في الانتخابات الأخيرة، ومع تراجع سمعة إيران السياسية في الداخل العراقي، إثر الانتفاضة الشعبية الأخيرة، غازلت أنقرة الحكومة العراقية، محاولة ملء الفراغ الإيراني المحتمل، حيث صرّح السفير التركي لدى بغداد، فاتح يلدز، مؤخراً؛ أنّ “التوازنات السياسية التي تأسست في العراق العام 2003، تغيرت، وأنقرة تعمل على تحسين التعاون الثنائي التركي العراقي، وخاصة في مجالي الأمن والاقتصاد”.

من جهة أخرى كثفت تركيا من تدخلها في الأراضي العراقية، من خلال الانخراط العسكري المباشر، بدعوى ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، وربما سمحت الولايات المتحدة لأنقرة بتوسيع نطاق عملياتها العسكرية في العراق، لمعادلة النفوذ الإيراني، حيث تجاوزت الأنشطة التركية إقليم كردستان، إلى مناطق جديدة مثل سنجار، شمالي غرب محافظة نينوى، كما أنشأت تركيا قاعدة عسكرية لها في منطقة، بعشيقة، في شمال شرق الموصل، كما سعت نحو منافسة طهران في كردستان، حيث وطّدت علاقاتها بحكومة الإقليم عبر سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية.

ويبدو أنّ التقارب الإيراني التركي الأخير، المدعوم من قطر، سمح بنوع من التفاهمات في الملف العراقي، وفق قاعدة اقتسام مناطق النفوذ، والتعاون في الملفات المشتركة، خاصة على الصعيد الأمني، ففي 17 حزيران (يونيو) الماضي، أطلقت تركيا عملية “مخلب النمر”، وتقدمت القوات التركية لمسافة 40 كيلومتراً داخل العراق، وأقامت نحو 30 قاعدة عسكرية مؤقتة.

وبالتزامن مع العملية التركية ضد قوات حزب العمال الكردستاني، قصف الحرس الثوري الإيراني مواقع الجماعات المسلحة الكردية المعارضة لإيران، في إقليم كردستان العراق، لتستهدف مدفعية الحرس الثوري الإيراني، والطائرات العسكرية التركية، منطقة آلانه، بالقرب من بلدة حاجي عمران الحدودية، في وقت واحد، ما يعكس تنسيقاً عسكرياً بين الطرفين، مع تلاقي الأهداف وحسم الملفات الخلافية.

سوريا وتداعيات سقوط بوابة الشمال

كان الضغط التركي المتواصل على الحدود السورية، أحد أبرز الآليات التي استخدمها المعسكر الغربي لاستنزاف المشروع العروبي، ومنع التمدد السوفيتي في ذروة الحرب الباردة، باعتبار تركيا دولة وظيفية، تؤدّي أدوراها المرسومة والمعدة سلفاً في أروقة الناتو، ما جعل من سوريا بوابة شمالية نجحت لعقود طويلة، بمساعدة مصر مرة، والمعسكر الشرقي مرات، في أن تظلّ موصدة في وجه التدّخلات التركية.

ومع اندلاع الثورة السورية، وتحولها في غضون أشهر إلى حرب أهلية، استقطبت الفرقاء من كل صوب، اتخذت تركيا موقفاً حاداً تجاه النظام السوري، محاولة استغلال الموقف لتطويق الأكراد من خلال دعم وتمرير المقاتلين المرتزقة وعناصر داعش، قبل أن تقرر الانخراط الخشن والعنيف، عبر التدخل العسكري المباشر، باقتحام الحدود السورية، وإنشاء منطقة آمنة، يسيطر عليها الجيش التركي.

في المقابل، كان بقاء النظام السوري بالنسبة لإيران، خياراً استراتيجيّاً مهماً، لتكوين حزام سياسي تابع، تغذيه طهران، على شكل مثلث تمتد أضلاعه من بغداد إلى دمشق إلى بيروت، ورغم أنّ إيران اعتبرت أحداث “الربيع العربي” امتداداً لما أسمته “الربيع الإسلامي” الذي بدأته العام 1979، إلا أنّها رفضت المساس بنظام البعث السوري، باعتباره حليفاً استراتيجياً لا غنى عنه.

كان الدعم العسكري الإيراني لتثبيت دعائم نظام الأسد فارقاً، حيث قامت طهران بتدريب وإرسال المليشيات الموالية، على امتداد جبهات القتال، وعلى رأسها عناصر حزب الله اللبناني، قبل أن تشرع في إرسال الآلاف من عناصر الـحرس الثوري، وتولى قاسم سليماني، إدارة العمليات بشكل مباشر على الجبهة السورية، وبحلول العام 2017، كان نحو 80% من مجموع القوات العسكرية المدافعة عن نظام الأسد تابعة لإيران، سواء عناصر الحرس الثوري الإيراني، أو مليشيات حزب الله، أو الشيعة الأفغان الذين حشدتهم ودربتهم طهران.

ومع الانخراط التركي العنيف، واللعب بورقة الأكراد، أدركت إيران صعوبة حسم المعركة في ظل الضغط الأمريكي على النظام السوري، وحدود التدخل الروسي، ما دفع الخارجية الإيرانية في آذار (مارس) 2020 إلى العمل على التوصل لتفاهمات مع الجانب التركي، حيث اقترح الرئيس الإيراني خلال مكالمة هاتفية مع نظيره التركي، عقد اجتماع ثلاثي بين إيران وتركيا وروسيا، لمناقشة الوضع في إدلب.

وبالفعل، كُللت مساعي التهدئة باجتماع قمة جمعت الرئيس الإيراني، حسن روحاني، ونظيريه الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، عبر تقنية الفيديو، وذلك ضمن مسار “أستانا” الذي ترعاه الدول الثلاث، وأكّدت القمة على استمرار التنسيق الثلاثي فيما يتعلق بالمسألة السورية، مع التشديد على خفض حدة التوتر، ودعم استمرار المسار السياسي، وكان الرئيس، روحاني، استهل القمة بالتأكيد على أنّ بلاده تعتبر الحل السياسي هو المخرج الوحيد للأزمة السورية.

من جهتها، استجابت أنقرة لمساعي التهدئة الإيرانية، محاولة عدم استفزاز روسيا، وربما بحثاً عن تفاهمات أخرى مع الجانب الإيراني، فيما يتعلق بالملفين الليبي واليمني، وهو ما يُفهم من تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، التي أعلن فيها رفض بلاده للعقوبات الأحاديّة المفروضة على إيران.

وربما يفسر هذا التفاهم في ضوء عدم قدرة أيّ طرف على الحسم العسكري، مع نجاح كلّ طرف في وضع قدم داخل الأراضي السورية، وهو ما شكّل نوعاً من التوازن يصعب معه تغيير أطراف المعادلة، بحيث يبدو اقتسام مناطق النفوذ أكثر منطقية، وفي ظل ملفات أخرى انفتحت عليها سيناريوهات التدخل، بات العالم العربي فريسة متاحة، يمكن من خلال التفاهم إنجاز الانقضاض عليها في وقت أسرع.

نقل عن حفريات

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى