أطماع أردوغان توقظ الأوروبيين
القرار الأوروبي بالمباشرة بتنفيذ مهمة بحرية عسكرية في البحر المتوسط ابتداء من هذا الشهر -أبريل- تحت اسم “إيرين” لمنع وصول المزيد من الأسلحة إلى ليبيا، جاء بعد تردد وتلكؤ بين أوساط القيادات الأوروبية، حتى إن البعض منهم وصفه بالمتأخر؛ لأن أردوغان تمكّن من تمرير الكثير من السلاح والعتاد والمرتزقة إلى طرابلس، وتحوّل إلى أمر واقع لا يمكن تجاهله أو القفز فوقه في أي مسعى دولي أو حتى أوروبي أو إقليمي يتعلق بحل مشكلة ليبيا، ومع ذلك شكّل القرار الأوروبي استجابة لصرخة تحذيرية أطلقها مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل حين قال: “إن الاتحاد الأوروبي مهدد بفقدان أهميته إذا لم يكن قادرا على التصرف تاركا مصير ليبيا بين تركيا وروسيا”.
يبدو أن كيل الأوروبيين قد طفح جراء السياسة التوسعية التي تنتهجها تركيا – أردوغان، ولم تعد أمامهم من خيارات لدرء الخطر التركي المتنامي ضدهم وضد بلادهم ومصالحهم إلا مقارعة أردوغان بالأداة ذاتها التي يلوح بها لهم في ليبيا؛ أي الأسلوب العسكري لردعه، مستثمرين بذلك قرارا أمميا بضرورة وقف تدفق السلاح إلى أطراف الصراع الليبي، وبعد أن اقتربت أنقرة بسلاحها ومرتزقتها بقواعدها العسكرية التي أقامتها على الأرض الليبية من محيط الحدائق الخلفية للقارة الأوروبية تنبه سياسيوها إلى حجم الأخطار المترتبة على استمرار السكوت وعدم الاكتراث إزاء سياسة التوسع التي تسم نهج تركيا – أردوغان منذ وصوله وحزبه العدالة والتنمية إلى سدة السلطة قبل نحو عشرين عاما.
القرار الأوروبي يطرح الكثير من الأسئلة حول دوافعه وأبعاده الاستراتيجية وحول جدواه وحتى حول توقيته، كما يرسم إشارات استفهام عديدة بشأن إمكانية تطبيقه، وهل يمكن تجنب الانزلاق إلى مواجهة عسكرية محتملة إذا ما أصر الرئيس التركي على الذهاب بعيدا في تحدي الإرادة الدولية، وكون المهمة الأوروبية عسكرية الطابع ووظيفتها منع وصول السلاح إلى ليبيا؛ هل يمكن توفير غطاء دولي لها إذا اقتضت الضرورة؟
الملامح الأولية التي عكستها مواقف أنقرة وحكومة السراج وحلفائها الرافضة للتوجه الأوروبي توحي بأن المهمة لن تكون سهلة على الأوروبيين، لكن الأوروبيين متمسكون بقناعاتهم أنهم ينفذون قرار الأمم المتحدة القاضي بفرض حظر على إدخال السلاح إلى ليبيا وبأن مهمتهم ستخضع للتقييم كل أربعة أشهر وهذا يعني أنه وبقدر ما تنطوي عليه الخطوة الأوروبية من إرادة سياسية وإدراك لحجم تحديات المهمة، فإنها تنمّ في المقابل عن قناعة لدى عواصم الغرب بأن الضرر المترتب على مهمتهم الآن، أيّا يكن نوع هذا الضرر وحجمه ومداه، سيكون أقل بكثير من ضرر التزام الصمت وتجاهل دوافع وغايات سياسة أردوغان على المستوى الاستراتيجي وأطماعه بجميع الاتجاهات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تستهدف القارة العجوز بطريقة غير مباشرة خصوصا أن جغرافية ليبيا السياسية في واقعها تشكل في مفردات السياسة الأوروبية ركنا أساسيا من أركان الأمن القومي الأوروبي لعوامل تاريخية وجغرافية واقتصادية وسياسية، ولعل تجربة الأوروبيين مع الابتزاز التركي في قضية اللاجئين وتصديهم لها بعملية بحرية أطلق عليها حينها اسم “صوفيا” وما ترتب عليها من تبعات إنسانية واقتصادية وأمنية على بلدانهم، لعل ذلك شكّل حافزا ومحرضا لهم؛ فالأمر لم يعد مجرد حفنة من الأموال تُرضي وتُسكت العثماني الجديد بل يتعداه إلى تهديد استراتيجي لمصالحهم في ليبيا ومحيطها والبحر المتوسط برمته بعد الخطوات التي اتخذتها تركيا بشأن موضوع التنقيب عن النفط البحري واستثمار الغاز قرب شواطئ قبرص واتفاقياته مع حكومة طرابلس بهذا الخصوص.. وإذا كان السؤال المطروح يتمحور حول ماذا يمكن للأوروبيين أن يفعلوه بعد تمادي تركيا في عدم احترام القرارات الدولية من جهة، ولماذا الصمت الدولي تجاه خرقها للقرارات الدولية المتعلقة بهذا الأمر من جهة ثانية، فإن السؤال المواجه يتعلق بالبحث عن طبيعة وأسلوب الرد التركي على الخطوة الأوروبية في حال حدوث مواجهة مباشرة بين الجانبين، وهو احتمال قائم مرتبط بجوهر المهمة الأوروبية والقرار الأممي القاضي بتفتيش سفن يشتبه بنقلها الأسلحة؟
لم يتردد أردوغان في الإفصاح عن نواياه وخططه الرامية إلى الانخراط عسكريا وبالتالي سياسيا في الصراع الليبي تحت ذرائع متعددة، غير أن محرك ودافع أنقرة مكشوف للعيان ويتلخص باقتناص فرصة وجود حكومة السراج الإخوانية في طرابلس والتسلل إلى تلك المنطقة نظرا لحيويتها الاستراتيجية، والهيمنة عليها وعلى قرارها السيادي، السياسي والاقتصادي، وتحويلها لاحقا إلى ورقة ضمن حزمة أوراقه التي كدسها من أزمات معظم المناطق المضطربة في الإقليم وتوظيفها في مقايضاته على طاولة الأوروبيين وغيرهم من اللاعبين الذين تتقاطع مصالحه معهم أو تتعارض وتتصادم، وبعد أن راكم أردوغان الكثير من مواقف اللامبالاة والاستهتار بقرارات دولية بشأن ليبيا وغيرها في مناطق أخرى فإن المهمة الأوروبية لا يبدو أنها ستكون استثناء من فرضية العبث التركي أو بمنأى عن سيناريوهات كثيرة من بينها تهور أردوغان ودفعه بالأمور إلى ممرات ضيقة قد يصعب الخروج منها دون خسائر، ومن الطبيعي أن يكون الاتحاد الأوروبي قد أخذ بالحسبان جميع السيناريوهات المحتملة وهو يواجه سياسة قائمة على ردود الفعل والانفعال والابتزاز من قبل الرئيس التركي ومنها استغلال أردوغان لموضوع اللاجئين مرة أخرى وإطلاق العنان لهم عبر البحار نحو أوروبا، لكنهم أيضا، الأوروبيين، لا يخفون خشيتهم من أن الخطر الأكبر القادم من تركيا يكمن في آلاف المسلحين المرتزقة الذين يتوافدون برعاية وحماية تركيا إلى الأراضي الليبية وعلى مرأى أعينهم، والذين قد يشكلون يوما ما خطرا يهدد بلدانهم؛ ما جعل الأوروبيين أكثر استعدادا وإقداما للقيام بخطوات احترازية مسبقة مهما كانت نتائجها المرحلية قبل أن تستفحل وتخرج عن نطاق سيطرتها بفعل ألاعيب ومناورات أردوغان.. الموقف اليوم مختلف عما سبق، فأكثر من سبع وعشرين دولة أوروبية وافقت على المشاركة في المهمة، والقرار الأممي يشكل رافعة للمهمة الأوروبية وغطاء لها، أردوغان سيجد نفسه وسياسته أمام امتحان وتحدٍّ أوروبي ودولي كبير، وخياراته المعهودة دونها الكثير من الصعوبات.
نقلا عن العين الإخبارية