أردوغان ومراجعة ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى
المتابع لحركة السياسة التركية داخليا وخارجيا، لا بد أن يتضح له أنها تعبر عن رؤية للمستقبل كما يتصوره الرئيس أردوغان، وأنها رؤية تخالف الأسس التي قامت عليها دولة تركيا الحديثة وأسسها كمال أتاتورك، وأنها تسعى لاستعادة حلم الإمبراطورية العثمانية أو ما يسمى باسم “العثمانية الجديدة”، وهي مجموعة من الأفكار التي تزاوج بين المبادئ التي قامت عليها تركيا الحديثة والتقاليد الإمبراطورية العثمانية.
من أهم مظاهر هذا التفكير الدعوة لمراجعة ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى، والمعاهدات الدولية التي تم توقيعها وقتذاك والتي مثلت الأساس القانوني لنشأة الجمهورية التركية، بحجة أنها ترتيبات مجحفة بحق الأتراك. ولكي نفهم ذلك، نتذكر أن الحرب العالمية الأولى 1914-1918 دارت بين طرفين؛ الأول تحالف كان أبرز دوله المملكة المتحدة وإيرلندا وفرنسا وإيطاليا وروسيا، والثاني تحالف بين ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية.
وانتهت الحرب بانتصار الطرف الأول وفرض شروطه على الدول المهزومة، ووضع الأسس للعلاقات بين الدول وإقامة منظمة عصبة الأمم. كان من هذه الشروط، استقلال بعض الولايات والأقاليم التي كانت خاضعة لهذه الدول أو وضعها تحت نظام الانتداب، وفقا لميثاق عصبة الأمم.
وبالنسبة للإمبراطورية العثمانية اتخذت هذه الترتيبات عدة أشكال. كان أولها معاهدة سيفر الموقعة في أغسطس/آب 1920، والتي بمقتضاها قُسمت أقاليم الإمبراطورية، ومنح الاستقلال للقوميات غير التركية وفرض النفوذ الغربي عليها، ومثل ذلك صدمة مروعة للأتراك وبالذات فيما يخص الحدود مع اليونان فشنوا حربا ضدها خلال الفترة 1922-1923.
وانتهت بانتصار القوات التركية، ودعوة الحلفاء إلى مؤتمر دولي في مدينة لوزان السويسرية 1923، ورأس الوفد التركي عصمت أنونو (1884-1973) أحد أبرز الساسة الأتراك الذي أصبح الرئيس الثاني للجمهورية بعد وفاة أتاتورك عام 1938. واستمرت جلسات المؤتمر لمدة ثلاثة شهور، وفي نهايته تم التوقيع على معاهدة لوزان الثانية، التي أنشئت دولة تركيا الحديثة في حدودها الراهنة.
تتكون هذه المعاهدة من 143 مادة موزعة على 17 وثيقة بين اتفاقية وميثاق وملحق، وتناولت ترتيبات الصلح بين الدول أطراف المعاهدة وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين تركيا الحديثة والحلفاء، وفقا لقواعد القانون الدولي.
ونصت المعاهدة على رسم حدود الدولة التركية مع اليونان وبلغاريا وأصبحت أرمينيا الجمهورية دولة مستقلة، وحلت النزاعات الإقليمية بينها والدول الأوروبية الأخرى. وبالنسبة للمنطقة العربية فقد أنهت أي صلة سياسية أو قانونية مع قبرص وليبيا ومصر والسودان والعراق وبلاد الشام التي ضمت سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، ووضعت قواعد لتنظيم التجارة والإقامة والقضاء، فنصت على ضرورة التزام الدولة التركية الجديدة بحماية حقوق جميع مواطنيها والمساواة أمام القانون بغض النظر عن الأصل والقومية واللون والدين، وبعدم وضع أي قيود على اختيار أي لغة يختارونها، وأنهت العمل بنظام الامتيازات الأجنبية الذي تمتعت به الدول الأوروبية، ووضعت القواعد الخاصة بتقسيط الديون العثمانية وقواعد المرور في المضائق المائية التركية واعتبارها ممرات دولية لا يجوز لتركيا تحصيل رسوم مرور من السفن العابرة فيها. وقد نصت المعاهدة أيضا على حماية حقوق الأقلية المسيحية الأرثوذكسية اليونانية بتركيا والأقلية المسلمة باليونان.
تحدث أردوغان في هذا الأمر أكثر من مرة وعبر عن رغبته في مراجعة آثار هذه الاتفاقية واستعادة الحقوق التي اغتصبتها الدول المنتصرة في الحرب الأولى، فقال إن خصوم تركيا أجبروها على توقيع معاهدة سيفر 1920 وتوقيع معاهدة لوزان 1923، وترتب على ذلك تنازل تركيا عن جزر تابعة لها في بحر إيجة، ووصف معاهدة سيف بأنها الشوكة الأولى في الظهر العثماني، لأنها أجبرتها على التنازل عن مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت واقعة تحت نفوذها.
وحسب اعتقاده، فإنه بعد مرور قرن من توقيع الاتفاقية ونشأة الدولة التركية الحديثة، فإنه يجوز إعادة النظر في هذه الترتيبات؛ ومنها مثلا فرض رسوم على السفن المارة في مضيق البسفور، والتفكير في حفر قناة تربط بين البحرين الأسود ومرمرة التي كانت تحظرها معاهدة لوزان. وهو اعتقاد لا يوجد له أساس في المعاهدة.
وتبقى قضية ولاية الموصل، التي تدعي تركيا وجود علاقة خاصة معها، وذلك بسبب خضوعها للإدارة العثمانية لمدة 4 قرون من عام 1534 إلى عام 1918، ولوجود أعداد كبيرة من التركمان الذين ينتسبون لأصول تركية ويعيشون فيها. والحقيقة أن وضع “الموصل” تعرض لتغيرات تستحق التسجيل، ففي اتفاقية “سايكس بيكو” بين بريطانيا وفرنسا في عام 1916، كانت الموصل ضمن منطقة النفوذ الفرنسي.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1918، احتلت القوات البريطانية الموصل، وألحقتها بأراضي العراق التي احتلتها خلال سنوات الحرب.
وأثار ذلك غضب فرنسا، وحدثت مقايضة بين الدولتين، فتخلت فرنسا عن الموصل مقابل لواء الإسكندرونة شمال غربي سوريا. رفضت تركيا هذه الإجراءات مؤكدة حقها في الموصل مدعية أن قواتها انسحبت منها طواعية. فقامت عصبة الأمم ببحث الموضوع ومحاولة الوصول إلى تسوية مرضية للطرفين، ولكنها لم تنجح فاتخذت قرارا في 1925 بتبعية الموصل إلى العراق. لم تقبل تركيا بالقرار، وبدأت مفاوضات تركيا بريطانية انتهت بتوقيع اتفاقية أنقرة التي وقعت عليها أيضا المملكة العراقية في مايو/أيار 1926.
أقرت الاتفاقية بتبعية الولاية للعراق وتنازل تركيا عن ادعاءاتها فيها، وترسيم الحدود بين البلدين. وإثر ذلك اعترفت تركيا بالعراق في مارس/آذار 1927. نصت الاتفاقية أيضا على حصول تركيا على 10% من عائدات نفط الولاية لمدة 25 سنة، وأعطت تركيا حق التدخل العسكري في الموصل وشمالي العراق لحماية الأقلية التركمانية إذا تعرضت لاعتداء أو تهددت وحدة الدولة العراقية.
ورغم ما يبدو أن معاهدة أنقرة قد أنهت الوضع القانوني لولاية الموصل، فإن ذلك غير صحيح فقد كانت هناك معارضة في البرلمان أثناء عرضها للموافقة عليه، ووقتها قال كمال أتاتورك إن تركيا سوف تعمل على استعادة الموصل في الوقت المناسب، أي عندما نكون أقوياء.
وتحدث الرئيس تورجوت اوزال الذي حكم تركيا خلال الفترة من 1989 إلى 1993 عن ضرورة إقامة حكم ذاتي للأقلية التركمانية في العراق. وطالب الرئيس سليمان ديميريل في عام 1995، بضرورة تعديل الحدود بين البلدين لأسباب تتعلق بالأمن التركي، وأن الموصل ما زالت مرتبطة بتركيا. وفي 2003، صرح وزير الخارجية عبد الله جل – الذي أصبح رئيسا للجمهورية فيما بعد- بأن تركيا سوف تحصل على حقوقها من النفط بالأساليب القانونية.
تعتبر تركيا اليوم أن هذه الاتفاقية أقرت بالعلاقة الخاصة بينها والموصل، وأن ما يحدث فيها يرتبط بالأمن التركي، وكان من تجليات ذلك أن أردوغان صرح في سبتمبر/أيلول 2016، بأن العراق يحتاج إلى عمل عسكري مشابه لعملية “درع الفرات” التي نفذتها تركيا في سوريا، وطلبت الحكومة التركية من العراق المشاركة في معركة تحرير الموصل من سيطرة “داعش”.
وتشير كل هذه التصريحات إلى أن النخبة السياسية الحاكمة في تركيا تعتقد أن اتفاقية أنقرة تم فرضها على الجمهورية التركية الوليدة وهي في مرحلة ضعف وفي حاجة لمساعدة الدول الغربية، وأنها اتفاقية غير عادلة ومن الضروري تعديلها، وأن من حقهم التدخل في شمال العراق إذا تعرض الأمن القومي التركي لتهديدات نابعة من هذه المنطقة، وأن الاتفاقية تقوم على أساس أن هناك “وحدة العراق”، وأنه إذا تعرضت هذه الوحدة للتهديد فإن الاتفاقية تكون قد فقدت أساسها وأصبحت ملغاة.
من الواضح أن أردوغان يشعر أن لديه “فائض قوة” يتيح له الفرصة لمراجعة ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى، إن لم يكن من الناحية القانونية فمن خلال خلق واقع جديد على الأرض.
نقلا عن العين الإخبارية