سياسة

أردوغان النادم على أخطائه


الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يبحث عن علاقات أفضل مع إسرائيل، ويريد فتح صفحة جديدة مع الاتحاد الأوروبي.

كما أنه يتطلع إلى حوار ودي بناء مع الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن. هذه حال “السلطان” الواهم اليوم بعد جملة المواقف الارتجالية الفارغة التي مارسها خلال الأعوام القليلة الماضية، وأدت إلى عزل بلاده دوليا، وجعلها خصما لأقرب الحلفاء والأصدقاء.

المواقف الأردوغانية كلها كانت عبارة عن عرض عضلات “دونكشوتي” لم يثمر عن أي نجاحات تسجل لصالح الدولة التركية، وإنما فقط زادت من أرصدة وثروات عائلة الرئيس وحاشيته. ربما كانت ترضي نرجسية أردوغان أحياناً، ولكنها في أحيان أكثر بكثير تعود لتضعه في مواقف محرجة تذهب بما أوهم به أتباعه من قدراته “الخارقة” على قيادة الدولة والعالم الإسلامي.

يشعر أردوغان اليوم بندم شديد وهو يواجه حقيقتين رئيسيتين في حكمه، الأولى هي أن مغامراته السياسية لم تكن موفقة، والثانية أنه مضطر لتغيير سياساته الخارجية والداخلية بعد سنوات من الادعاء بصوابها ونجاعة نتائجها. لم يعد يمتلك رفاهية الاستمرار في خدعه السياسية، وقد انتهى عهد العنتريات التي كان يضلل بها أولئك الحالمين بعودة الإمبراطورية العثمانية من جديد.

يظن الرئيس التركي أن المصالحة مع تل أبيب ستفتح له مجدداً أبواب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كما أنها ستهدم كل ما شهده هذا العام من تحالفات عربية غربية حاصرت أطماعه في ثروات مياه المتوسط وخزائن الدول القابعة على الضفة الأخرى من البحر، إضافة إلى أنها ستوقف تأثير مسار السلام العربي الإسرائيلي الذي تتردد أصداؤه في عقر دار أردوغان.

يجهل أردوغان أو يتجاهل بتعبير أدق، أن الزمن لن يعود أبداً إلى الوراء، والمصالحة التي يتمناها مع الإسرائيليين أو الأوروبيين أو الأمريكيين، لا يمكن أن تحدث ببساطة وكأن شيئاً لم يكن. لا يمكن أن يتناسى الجميع أخطاءه وكأنها عثرات مراهق، أو هفوات شاب طائش يدفعه الحماس. لقد كانت كبوات كبيرة جداً، وقد ترتب عليها كثير مما حدث وسيحدث لاحقا دولياً وإقليمياً.

لن تشطب المصالحة الإسرائيلية التركية كيفما وأينما وقعت، ما جرى من تفاهمات عربية غربية حول منطقة شرق المتوسط براً وبحراً، كما أنها لن تقنع بروكسل بأن تركيا ما زالت قابلة للانضمام إلى عائلة الاتحاد الأوروبي، أو تقنع الولايات المتحدة الأمريكية بأن أنقرة ما زالت حليفا موثوقا في مواجهة خصوم حلف شمال الأطلسي، وعلى وجه التحديد الدب الروسي.

هل تضمن عودة أردوغان إلى أحضان إسرائيل تغاضي الولايات المتحدة عن شراء تركيا، العضو في حلف الناتو، لمنظومة الصواريخ الدفاعية الروسية “أس 400″؟ هل تكفي كي ينسى الاتحاد الأوروبي كل ما عاشه من جولات ابتزاز ومساومة مارسها أردوغان بحقه خلال أزمتي اللاجئين وشرق البحر المتوسط وقضايا أخرى، على مدار السنوات الأربعة الماضية؟

ثمة مشكلة أخرى في تلك “الصداقة” التي يحلم أردوغان باستعادتها مع إسرائيل، فهي لا تستطيع تجاوز مسار السلام الذي بدأ في 2020 بين تل أبيب والعديد من العواصم العربية. فذلك المسار قابل للتوسع ومرحب به من قبل أمريكا وأوروبا، ومن دواعي سرور إسرائيل مواصلته لأنه يعزز حضورها في المنطقة، كما يلبي مصالحها العليا التي تتجاوز تركيا بكثير جداً.

ولأنه يعرف كل هذه الحقائق، لا يستعجل “أردوغان” إنجاز المصالحة مع إسرائيل. بالإضافة إلى سبب جوهري أخر يجعله يتباطأ في إتمامها، وهو أن هذه المصالحة ستسقط آخر أوراق التوت عن مزاعم “سعيه” لتحرير القدس وحرصه على القضية الفلسطينية. ذلك “السعي اللفظي” الذي شرع به أردوغان مؤخرا بعد أن انطلق مسار السلام بين إسرائيل والدول العربية.

لم ينته أردوغان بعد من كذبة “فلسطين جرحه النازف”. وما روجت له جماعات الإسلام السياسي من تهويل لهذه الكذبة، يجعل من الصعب على أردوغان إنجاز المصالحة مع إسرائيل بسرعة. لقد بالغ أردوغان وأبواقه في انتقاد الدول العربية التي وقعت اتفاقات سلام مع إسرائيل، وهذه المبالغة ستعود عليهم بالضرر مع كل خطوة يخطونها نحو استعادة “الصداقة” مع تل أبيب.

في محصلة الأسباب الخارجية، لا يبدو رهان الرئيس على العلاقة مع إسرائيل مجدياً. كذلك الحال في الدوافع الداخلية، حيث أن المعارضة التركية لن تتجاوز كل أخطاء أردوغان إن نجح في إعادة تل أبيب إلى قائمة حلفائه، لن تكون هذه المقايضة عادلة لها، بعد كل ما طال البلاد خلال عهده من تردٍ في حقوق الإنسان والحريات الأساسية وسلطة القضاء والأوضاع الاقتصادية.

من وجهة نظر المعارضة بات أردوغان يشكل عبئا على الدولة التركية بكل ما تجسده من معان سعت أجيال وأجيال لتكريسها على مدار مئة عام. وإدراكه لما جره على البلاد بسبب نزقه وخصوماته المتفجرة دون أسباب مع الجوار والحلفاء والشركاء، لن يغفر له ولن يعفيه من تحمل المسؤولية، مهما حاولت أبواقه تبرير ما حدث، وسعت بعض الدول إلى ترقيع عثراته وزلاته.

أفضل ما يمكن لـ”أردوغان” النادم فعله اليوم، هو وقف نزيف رصيد بلاده بسبب نزقه. وهي مهمة ليست سهلة، ولن يجد كثيرا من الأصدقاء لمساعدته فيها، سواء في الداخل أو الخارج. دروس الماضي علمت أردوغان أن الاعتذار عن الأخطاء مكلف، ويقود إلى تنازلات. وإن كان 2020 عام مغامرات مجانية، فإن السنة المقبلة ستضعه أمام استحقاقات صعبة لا فرار من مواجهتها.

العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى