سياسة

واشنطن وبكين.. منافسة استراتيجية أم نزعة هيمنة؟


المعضلة الصينية للولايات المتحدة لا مثيل لها ولا شبيه، وغير مسبوقة على صعيد التحديات التي تواجه واشنطن منذ القرن التاسع عشر.

استثنائية المعضلة الصينية تكمن في مقوماتها الذاتية، الطبيعية منها والمكتسبة. لا تستند بكين إلى دول أخرى لدعمها. ليست ضمن تكتلات دولية بحثاً عن الحصانة والمنعة. تهتدي بنظام حكم مركزي حزبي مؤدلج صارم؛ متجانس مع القيم الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع. العقيدة السياسية متماهية حتى الاندماج مع جميع قطاعات الحياة. كتلة بشرية تعادل نحو ثلاث مرات حجم الكتلة البشرية الأمريكية.

تستلهم من جميع النظريات الاقتصادية عبر التاريخ ما يفيدها في الوصول إلى أعلى درجات سلم العرش الاقتصادي العالمي حتى الآن. تتبع سياسة حذرة مرنة ومدروسة على المسرح الدولي دون التفريط بهيبتها ومكانتها أو بركائز علاقاتها ذات الطابع الاستراتيجي مع دول كبرى أو كتل دولية وازنة. لها خطوطها الحمراء في أكثر من منطقة تعتبرها ضمن مناطق نفوذها الحيوي ولها فيها مصالح. معدلات التنمية فيها تسجل ارتفاعاً مطرداً على الدوام. إرثها التاريخي، الثقافي والإمبراطوري والسياسي والاجتماعي يمنحها الكثير من سبل التفرد والخصوصية. اختارت الاقتصاد سبيلاً للبناء المتنامي داخلياً وخارجيا؛ فأفردت مروحتها التجارية لتظلّل العالم برمته بمنتجاتها.

تسللت إلى معظم الأسواق العالمية من خلال مبدأ حاسم يتمثل بتزويد كل سوق بما يرغب من السلع تبعاً لحاجته ولقدراته وإمكاناته ومستويات دخله. خاطبت بإنتاجها السلعي أذواق المستهلكين المختلفة في أربع جهات الأرض. تمكنت من القضاء على الفقر المدقع بين سكانها الذين يتجاوزون المليار نسمة.

ما هي خيارات إدارة بايدن للتعامل مع المارد الصيني؟ هل تسعى لبلورة قواسم مشتركة معها على الأصعدة الاقتصادية والتجارية وبالتالي السياسية؟ إلى أي مدى تستطيع واشنطن إحداث تغيير في سلوك بكين سواء عبر التفاهم والسياسة، أو عبر التصعيد والعقوبات كما تفعل مع غيرها من الدول؟ ماذا يمكن أن تفعل الولايات المتحدة الأمريكية لوقف التمدد الصيني تجارياً وفرملة إنتاجها الاقتصادي؟ هل تستطيع واشنطن حشد حلفائها في جميع أنحاء العالم لمواجهة الصين بعد أن تغلغلت الصناعات والمنتجات الصينية بمختلف صنوفها في ثنايا الدول والمجتمعات والشركات بما فيها الأمريكية؟.. يدرك الجانب الأمريكي أن الصين لم تعد تشكل تحدياً اقتصادياً وتجارياً قابلاً للاحتواء وحسب، بل باتت تمثل تحدياً أمنياً كبيراً لمصالحها انطلاقاً من حقيقتين واقعتين؛ الأولى: القدرات الذاتية الهائلة في كل المناحي، أما الحقيقة الثانية فتنبع من ارتباط معظم عجلة الإنتاج العالمي اقتصادياً مع حركة التجارة الدولية بالصين، وهذا تحديداً يمثل تحدياً لا يقل تعقيداً وصعوبة على الأمريكيين من بقية عوامل التحدي الأخرى، لأنه أنشأ حالة تداخل وتشابك بين مصالح بكين ومصالح دول حليفة لواشنطن، وهذه الدول لم تعد في وارد الاعتماد على بدائل اقتصادية وتجارية تلبي احتياجاتها كي تفرط بمكاسبها مع الصين من ناحية، وتبدو أيضاً متمسكة بخياراتها المتعلقة بالتكاليف المالية المنخفضة التي توفرها لميزانياتها من ناحية ثانية .

ليس من شك في أن خيارات إدارة بايدن محدودة في سعيها لمواجهة الصين، منها استبعاد المواجهة العسكرية المباشرة معها، ربما تحدث حروب عبر الوكلاء، وذلك لا ينهي مشكلةً ولا يحسم مصيراً. الصين لا تبدو في وضع قلق، ولا تعكس سلوكياتها ومواقفها نبرةً تصعيدية مع أنها مليئة بالتحدي والرفض للطروحات الأمريكية، ولا تبدي اكتراثاً لمعظم محاولات الاستفزاز التي تتعرض لها في بحر الصين الجنوبي وهونج كونج وبعض مناطق نفوذها، بل تحافظ على إيقاعها المنضبط في التعبير عن مواقفها. أكثر الخيارات ترجيحاً يميل إلى اتجاه تطوير استراتيجيات مشتركة للتفاهم على قاعدة تحقيق تعاون اقتصادي أكبر وتدارس بعض القضايا الأمنية المقلقة لدى كل جانب، والتركيز على خلق فرص لتنمية العلاقات بينهما وتنشيطها، خاصة أن الجانبين يتمتعان بأكبر اقتصادَيْن في العالم وبحجم تجارة ثنائية يزيد على 560 مليار دولار سنوياً.

تسوية شاملة ونهائية بينهما بعيدة المنال بفعل عوامل متعددة؛ أبرزها قوة وقدرة وطموحات كل طرف، فلا الأمريكيون سيسلمون بهيمنة الصين على حسابهم، ولا الصينيون مستعدون للقبول بالمركز الثاني عالمياً بعد انتشار سحبهم الاقتصادية وسفنهم التجارية في فضاءات العالم ويابسته.

العلاقات الصينية الأمريكية بمختلف أطرها دخلت منعطفاً جديداً. الجديد فيها طرح كل جانب أوراقه على الطاولة دون مواربات أو وكلاء، بمعنى الانتقال من صراع الكواليس إلى خشبة المسرح وإزاحة الستار. الأمريكيون يتأبطون ملفات “مثيرة لقلقهم العميق” بسبب سلوكيات الصين التجارية والحقوقية والسياسية مع استعدادهم لمناقشة عدة قضايا من بينها كوريا الشمالية وأفغانستان وإيران وحقوق الإنسان، ويعلنون أحياناً أنهم لا يريدون صراعاً بل يرحبون بالمنافسة.

الجانب الصيني يستغل كل مناسبة ليتوعد باتخاذ إجراءات حازمة ضد التدخل الأمريكي ويعلن أن الولايات المتحدة تستغل قوتها العسكرية وسطوتها المالية لفرض وصاية طويلة الأمد وقمع الدول الأخرى، وإنها تسيء استخدام ما يسمى مفاهيم الأمن القومي لعرقلة التعاملات التجارية الطبيعية وتحريض بعض الدول على مهاجمة الصين.

لا مجال للحديث هنا عن حرب باردة بين القطبين الأكثر قوة على وجه البسيطة، ولا يتسق الطرح منطقياً مع أي توصيف من هذا القبيل، بل يبدو التنافس أشد تعقيداً من وسائل أي حرب باردة، فواشنطن بما تحوزه من قوة ذاتية هائلة متعددة المجالات والصنوف وما لديها من تحالفات مع تكتلات إقليمية ودولية على المسرح العالمي، وبكين باعتبارها القوة الأضخم بشرياً واقتصادياً وتجارياً على وجه المعمورة ولها تحالفاتها مع قوى دولية راسخة ومؤثرة؛ تشكل كلتاهما كفتي ميزان لتوازن العالم، وبالتالي من الصعوبة بمكان إحداث خلل فيه أو السماح باختلاله لما ينطوي عليه ذلك من مخاطر على الجميع بما فيه الطرفان الأمريكي والصيني.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى