وكان يكفي روسيا – كي تسحب حشودها- أن تتلقّى من الولايات المتّحدة الأمريكيّة و”النّاتو” ورقةَ ضمانات أمنيّة بعدم ضمّ أوكرانيا إلى الحلف. لكنّ إحجام الأخيرة عن مقابَـلةِ مطالب روسيا وهواجسها الأمنيّة بالإيجاب، لم يترك لها من خيارٍ آخر سوى إطلاق حملة عسكريّة تفرض بها درعاً للأمن القوميّ الـرّوسيّ ردّاً على الغرب وعلى تمسُّكه بـ”حـقّ” أوكرانيا في طلب العضويّة بالحلف.

مسألة الأمن حسّاسة وحيويّة بالنّسبة إلى روسيا الاتّحاديّة؛ البلد الكبير الذي لم يتبقّ له من نفوذٍ دوليّ – بعد انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ وانفراط منظومته الأوروبيّة الشّرقيّة – سوى الدّفاع عن أمنه القوميّ في وجه أخطار داهـمة وزاحفة، كلّ يوم، من غربه المنكشفةُ حدودُه التّقليديّة.

ويتعاظم الهَجْس الرّوسيّ بمسألة الأمـن في ضـوء حقيقـتين سياسيّتيْن لم تَنْـفكَّـا تفرضان نفسيْهما على السّياسات الرّوسيّة منذ مطلع عقد التّسعينيّات مـن القرن الماضي:

أولاهما أنّ عداء الغرب لروسيا، وتربُّصَـه بها، لم ينته بانهيار إطارها السّوفييتيّ، وانهيارِ حلفها الأوروبيّ الشّرقيّ – الملتئم في منظومتي “وارسو” و”الكوميكون” – وزوالِ النّظام الشّيوعيّ فيها، وصيرورتها بلداً رأسماليّاً، وانكفائِـها إلى حدودها القوميّة التّقليديّة ما قبل البلشفيّة، بل استمرّ على الوتيرة عينِها في حقبة ما بعد الحرب الباردة بطـوْريْها: طـوْر الأوحديّة القطبيّة، في نهاية القرن الماضي، وطـوْر التّعدّديّة القطبيّة في أوائل هذا القرن، وكان يجد لنفسه، دائماً، مبرّراً للتّحرّش بروسيا ومحاصرة نفوذها.

وثانيهما أنّ تَمَـدُّد حلف “النّاتو” نحو المجال القوميّ الرّوسيّ لم يتوقّف، منذ انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ، على نحوٍ بـدَتْ معه روسيا في مـوقفٍ دفاعيّ سيّء؛ وخاصّـةً في ضوء استمرار حالة العداء الغربيّ لها، المتزايـدِ وتيرةً منذ خروج بوريس يلتسين، حليف الغرب ودميته، من السّلطة ووصول فلاديمير بوتن إليها.

لقد وضع ذلك التّمدُّد المتمادي المجال الأمنيّ الرّوسيّ في حالة انكشافٍ كامـل، كان لا بـدّ لروسيا من الـرّدّ عليه، ولو من طريق الحدّ من إيقاع زحفه عند الحدود الدّنيا التي تحفظ بعضَ الأمن القوميّ.

ولقد جرى توسيع رقعة مظلّة “حلف شمال الأطلسيّ” في أوروبا، على نحوٍ متسارع، منذ توحيد ألمانيا، وخاصّةً منذ ضمّ بولندا إليه في العام 1999. وهو سَلَك مسْلَك الانتقال من غـرب أوروبا إلى شرق أوروبا، فإلى جمهوريّات الاتّحاد السّوفييتيّ السّابقة.

هكذا أتى انضمام بلدان من شرق أوروبا، مثل بولندا والمجر وتشيكيا ثمّ، بعدها، بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، بين العامين 1999 و2004؛ وما لبث الضّمّ أن استغلّ انفراط الاتّحاد اليوغوسلافيّ فشمل كرواتيا والجبل الأسود وألبانيا.

في الموازاة، كان يجري ضمّ جمهوريّات سوفييتيّة سابقة (إستونيا، لاتـفيا، ليتوانيا) إلى الحلف، في الوقت عينه الذي يبدأ فيه “النّاتو” – في العام 2019 – بالبحث في إمكان عضويّة البوسنة والهرسك، ومقدونيا الشّماليّة، وجورجيا، وأوكرانيا إليه، والأخيرتان على مرمى حجرٍ من حدود روسيا.

ما من دولةٍ في العالم – خاصّةً إن كانت كبرى وتحيط بها أخطار وجوديّـة من حلفٍ دوليّ ضخم على حدودها – تَـقْبل بأن تسْكت عن مداهمة تلك الأخطار لكيانها.

وسيكون على المرء أن يكون على درجةٍ محترمة من الغباء كي يصدّقَ رواية مـن يطالبها بـأن لا تلتفت إلى جوارها وإلى ما يجري فيه من ترتيبات، وأن تحترم سيادة ذلك الجوار وقراره الوطنيّ الحـرّ في أن يختار الانضمام إلى أيّ حلفٍ يشاء! لا يعادل السكوتُ، هنا، سوى الانتحار.

والحقّ أنّ المشكلة، في هذه النّازلة الأوكرانيّة، ليست لا في روسيا، ولا في أوكرانيا المغلوبة على أمرها، بل في منظومةٍ أطلسيّة لم يعد ثمّة ما يبرّر لها الوجود بعد ارتفاع الأسباب الدّوليّة التي أوجدتها.

قامت منظومة الأطلسيّ، في العام 1949، في امتداد مناخ الاستقطاب الدّوليّ بين الدّولتين الكبيرتيْن ومعسكريْهما، وفي مواجهة خطر التّمدُّد الشّيوعيّ من الاتّحاد السّوفييتيّ والمعسكر “الاشتراكيّ”.

انتهت الحرب الباردة (1990- 1991) عمليّاً – بعد الإعلان عن انتهائها لفظيّاً في قمّة ريكيافيك- وانتهى “الخطر الشّيوعيّ” على أوروبا والغرب، لكنّ المنظومة بقيت وتوسَّعت وتعاظمت من غير أن يكون لذلك ما يسوِّغه.

وحين طلب رئيس روسيا من رئيس أميركا الانضمام إليها، رُفِض طلـبُه! لماذا؟ لأنّ روسيا ما تزال عدوّاً للغرب حتّى إشعار آخر. وهذا وحده ما يبرّر له استمرار منظومته، والزّحف بها نحو الحدود الرّوسيّة. ولا بأس عنده أن يأكل الثّـوم، اليوم، بأفواه الأوكرانيّين!