هل تسهم الأحزاب السياسية في تحقيق الحكم الرشيد؟
من الصعب تقديم إجابة واحدة عن هذا السؤال المركزي في الظاهرة السياسية في العالم العربي بصفة عامة وفي مصر بصفة خاصة.
ولعل أهم هذه الإجابات وأكثرها مصداقية هو ذلك الذي يرجع حالة الاستعصاء الديمقراطي في الشرق الأوسط عامة، ومصر خاصة، إلى أسباب ثقافية تتعلق بميراث الدولة المركزية، هذا الميراث في الثقافة السياسية جعل المواطنين أكثر تعلقاً بالدولة من المجتمع، وبالمؤسسات الحكومية من المؤسسات التي يُنشئها المجتمع، وبالسلطة أكثر من المعارضة، وبالإدارة الحكومية أكثر من الفعل الاجتماعي الطوعي.
وإذا تناولنا أسباب هذه الحالة من الاستعصاء على التحول الديمقراطي على مستوى الأحزاب سنجد أن هناك العديد من الأسباب المنبثقة من أزمة الثقافة السياسية من ناحية، ومن التطور السياسي للدولة ومؤسساتها من ناحية أخرى، فالثقافة السياسية المصرية هي خليط من عديد من الموروثات، تم مزجه في بوتقة الشخصية المصرية التي لا ترى للفرد وجوداً خارج الجماعة، ولا ترى للجماعة أماناً إلا مع الدولة ومؤسساتها الكبرى، فهي تخضع خضوعاً مطلقاً للدولة، ولا تؤمن بالخروج عليها، تقدسها إلى حد العبادة، وإذا ثارت على حاكم معين كما حدث في تولية محمد علي باشا مثلا، أو في ١٩٥٢ و٢٠١١، فهي تثور على سياسات الحاكم وشخصه، وليس على مؤسسة الحكم، لذلك ما أن تنتهي الثورة حتى يرتمي المجتمع منهكاً طالباً للراحة في حضن الدولة، ولعل هذا ما لم يفهمه تنظيم الإخوان، فالدولة هي ملجأ المجتمع؛ لذلك ففي ظل هكذا ثقافة من الصعب أن يكون هناك دور للحزب إلا إذا كان حزب الدولة.
كذلك هناك أزمة في العلاقة بين الأصيل والوافد؛ حيث تشهد مجتمعات الشرق الأوسط عموماً حالة من الصراع بين المؤسسات المستنبتة، أو الوافدة أو المنقولة من الغرب من ناحية، والمؤسسات الطبيعية أو الأصلية أو التي تطورت ذاتياً في تلك المجتمعات من ناحية أخرى، بل إن الأمر لا يقف عند حدود المؤسسات، وإنما يشمل جميع أبعاد المجتمع ومكوناته، فمنذ بداية الانبهار بالحضارة الأوروبية فيما بعد الحملة الفرنسية، وهناك حالة من الانقسام على الذات، أو انشطار الذات الاجتماعية والسياسية والثقافية، بل الحضارية عامة، ما بين مكونين متصارعين؛ هما: المكون الغربي المنقول من الخارج، والمكون الأصيل أو التراثي أو التاريخي، أو بعبارة أخرى بين التقليدي والحديث في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتعليم والفنون.. إلخ.
وفيما يتعلق بالأحزاب كمؤسسة منقولة عن النظم السياسية الأوروبية، جاءت لتحل مؤسسات وسيطة كانت تقوم بدور مشابه لدورها مثل الطائفة والحرفة والنقابة ومؤسسات العلماء والتجار والأعيان والمؤسسات القبلية والجهوية والمذهبية.. إلخ. كل تلك المؤسسات كانت تقوم بأدوار التجنيد السياسي والتعبير عن المصالح وتجمعها والاتصال السياسي، كذلك كانت تطرح نفسها بديلاً للوصول إلى السلطة بطرق مختلفة، وكانت تمثل رقابة مجتمعية على السلطة السياسية، وكانت كذلك تمثل حماية للفرد من أن تنفرد به الدولة وتلتهمه، كل تلك المؤسسات تم إضعافها، ولكن لم يتم القضاء عليها، ولذلك أصبحت ضعيفة ولكنها موجودة؛ فلم تفسح المجال للحزب السياسي أن يستقر ويتجذر، ولم تستطع مقاومته واسترداد فاعليتها ودورها، فكانت النتيجة أنها تسربت في جسد الأحزاب السياسية وصبغتها بصبغتها، وحاولت أن تجعل من الأحزاب امتداداً طبيعياً لها، ومن هنا فشل الحزب ولم يستطع أن يحقق أهدافه لأنه قد تلبسته مؤسسات تقليدية سخرته لتحقيق أهداف تبعده كثيراً عن أهدافه ووظائفه وأدواره.
وهنا يثور السؤال: هل يمكن إصلاح النظام الحزبي في مصر وتفعيله؟.. والإجابة أن دراسة النظام الحزبي في مصر ستقودنا إلى نتيجة مفادها أن الأحزاب في مصر تلعب دوراً معيقاً للتحول الديمقراطي، وغالباً معيقاً لوظائف الدولة، ومهدداً لوجودها؛ لأنها كيانات غير سياسية؛ تهدف لتحقيق مصالح غير سياسية؛ تتعلق بالأشخاص و”الشلل” التي تديرها، ولذلك تقوم هذه الأحزاب بإرباك المشهد السياسي، وتوتيره واللعب عليه للمساومة على مصالح من يديرونها، إنها في الحقيقة تقوم بنفس دور جماعات الضغط أو جماعات المصالح في النظام السياسي الأمريكي، ولا تسهم في التنشئة السياسية، أو الثقافة السياسية أو التجنيد السياسي، ولا تقدم بدائل للحكم، ولا تقدم كذلك بدائل لصنع القرار السياسي، ولا تمثل منافساً قوياً للسلطة التنفيذية؛ بل إن الأحزاب تنافق أو تناكف السلطة التنفيذية ولا تنافسها.
لذلك فإن إصلاح النظام الحزبي في مصر يحتاج إلى قرارات ثورية تهدف إلى تنظيف هذا النظام من رواسب العصور السابقة، وبداية تأسيس بنية قانونية تقود إلى نظام حزبي حقيقي؛ وليس مجرد كيانات افتراضية لا تحقق أي هدف سياسي، وذلك من خلال إلغاء وحل جميع الأحزاب الموجودة حالياً بعد وضع قانون أحزاب صارم؛ يضعه مجلس النواب، وإعادة تأسيس بنية حزبية على أسس صحيحة تقوم على برامج واضحة، ولا تستخدم لأي أهداف غير سياسية سواء دينية أو طائفية، أو جهوية، أو اقتصادية، أو شخصية؛ حيث يمكن تأسيس من خمسة إلى سبعة أحزاب على الأكثر، متنوعة البرامج، قادرة على القيام بدور الحزب الذي تعرفه مختلف دول العالم. ومع كل ذلك ينبغي تبني نموذج أمريكا الجنوبية أو ما يعرف بالكوربراتية السياسية… “وللحديث بقية”