نهاية عصر “السلطان”


جاءت نتائج الانتخابات المحلية التركية صادمة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية على حد سواء، ولكن الحقيقة أن هذه النتائج لم تكن خارج توقعات أي رؤية بحثية جادة للشأن التركي، فالرئيس الذي ظل متصدراً واجهة المشهد السياسي التركي لأكثر من عقدين غابت عنه أبسط القواعد الحاكمة لصناديق الانتخابات، وهي مؤشرات الاقتصاد، التي كانت السبب الرئيسي المباشر في سطوع نجمه وظهور ما عرف في سنوات سابقة بالنموذج التركي، الذي بات يعاني تحت وطأة السياسات الخاطئة والإغراق في الذاتية والميل إلى الانفراد بالسلطة والهيمنة على مفاصل القرار، بما أضعف عوامل قوة هذا النموذج وتسبب في تقويضه واهتزاز دعائمه.

لم يخسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية من الناحية الكمية أو الإحصائية، ولكنه خسر من الناحية النوعية حين فقد رئاسة مدن كبرى منها أنقرة وإسطنبول التي سطع منها نجم أردوغان ذاته في حقبة التسعينيات، فمهما كانت المؤشرات الإجمالية، فإنها لا يمكن أن تصرف الأنظار عن خسارة العدالة والتنمية مناصب رئاسة مدن لها علاقة مباشرة برسم خارطة الحياة السياسية التركية، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ تأسيس الحزب عام 2001.

لقد كانت الحملات الانتخابية التي سبقت هذه الانتخابات واستغرقت نحو شهرين تعكس أهمية هذا الاقتراع الذي يعتبر بمنزلة تصويت على سياسات الرئيس أردوغان ذاته، لأنها الانتخابات الأولى عقب التعديلات الدستورية في عام 2017، فلم تفلح الخطب الرنانة والشعارات والتوظيف السياسي الفج لكثير من الأحداث مثل الاعتداء الإرهابي على المسجدين في نيوزيلندا في إنقاذ شعبية الرئيس التركي وحزبه؛ لأن كل هذا يتجاوز ببساطة القاعدة الحاكمة للصناديق، وهي الاقتصاد!

 لا خلاف على أن الاقتصاد التركي يشهد تراجعات متواصلة منذ انقلاب عام 2016 والانتقال إلى النظام الرئاسي، بسب تزايد صلاحيات الرئيس على حساب الديمقراطية ودولة القانون، حيث حدث اختلال واضح في الأوزان النسبية للهياكل الدستورية التركية، وطغى أردوغان بشخصيته على بقية السلطات، يضاف إلى ذلك الإجراءات التعسفية التي أعقبت الانقلاب ضد معارضي أردوغان وحزبه، ودخول الرئيس في صراعات داخلية وخارجية فاقت في تأثيراتها السلبية الهائلة حدود تحمل الاقتصاد التركي.

لم يكن من الممكن أن تدخل تركيا في صراعات مع محيطها الأوروبي، ومع الولايات المتحدة وخلافات حادة مع محيطها العربي والإسلامي، وتتورط في سوريا والعراق، وتحالفات إقليمية مضادة للمصالح الجيواستراتيجية التركية، ولا يتأثر الاقتصاد التركي بكل ذلك!

 لذلك فإنه يمكن القول بأن نتائج الانتخابات المحلية هي بداية نهاية الحقبة الأردوغانية في السياسة التركية، وكذلك الحال بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، ما لم ينجح الحزب في استرداد قدر من ثقة الأتراك والحد من هيمنة السلطان أردوغان على قرارات الحزب، حيث لعب عناده دوراً كبيراً في تلك الخسارة الانتخابية الفادحة لإصراره على فرض مرشحين بأعينهم، وتجاهل دور قيادات تاريخية للحزب لعبت دوراً لا يقل عن دوره في مسيرة صعود الحزب.

لا بديل الآن لأردوغان من أجل إنقاذ ما تبقى من شعبيته وتفادي حدوث ما هو أسوأ خلال الفترة المقبلة قبل الانتخابات العامة المقررة عام 2023، سوى التركيز على الاقتصاد والدخول من نفس البوابة التي كانت سبباً في شهرته وصعوده السياسي، ولكن هل يمكن له تحقيق ذلك بعد أن خسر جزءاً كبيراً من الاستثمارات الأوروبية والأمريكية والخليجية وراهن على قطر؟ وكيف له أن يقنع الناخب التركي مجدداً بقدرته على بناء مستقبل تركيا بعد أن تخلى عن سياسية “صفر مشاكل” التي أسس لها داود أوغلو مهندس السياسة الخارجية التركية، إلى انفراد أردوغان بالقرار وإغراق السياسة الخارجية التركية في سلسلة معقدة من الأزمات المتلاحقة؟!

الدرس الأكبر من هذه الانتخابات أن الناخب لا يصوت للشعارات ولا العواطف بل يصوت بالأساس لمؤشرات التنمية والأداء الاقتصادي، الذي ينعكس على الأوضاع المعيشية للشعوب، لذا لم يكن مفاجئاً أن تصوت غالبية سكان مدن أنقرة وإسطنبول لصالح مرشح حزب الشعب الجمهوري العلماني على حساب مرشحي العدالة والتنمية ذوي الخلفية الإسلامية.

كل المؤشرات تؤكد أن أردوغان لن يفلح في إعادة توجيه دفة السياسة التركية بما يجنب حزبه انهيارات سياسية محتملة خلال السنوات القلائل المقبلة، ورغم ما عرف عنه من براجماتية وقدرة على الالتفاف والمناورة، فإنه يبدو هذه المرة بحاجة إلى معجزة لتصحيح أوضاع وأخطاء صنعها بنفسه.

Exit mobile version