سياسة

نماذج الأزمات.. “الأفغنة – العرقنة – السورنة”


عاشت المنطقة العربية والإسلامية عدة نماذج لأزماتها، كل أزمة أخذت طابعًا مغايرًا اكتسب خطورته من فضاء المنطقة الجغرافية التي ولد وتحرك فيها، فالأفغنة “حالة ارتبطت بالأزمة الأفغانية” منذ دخول السوفيت إليها عام 1979، وما رافق ذلك من تكريس لفكرة “الجهاد في بلاد مسلمة ضد المحتل الكافر”.

وهنا ظهر ما عرف وقتها بـ”الجهاد بأيادي عربية في بلاد غير عربية”، بعدها سيطرت حركة طالبان على البلاد عام 1996، ومعها تأسست “القاعدة” على سواعد من كانوا مجاهدين سابقين منهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري ومن خلفهما أفكار عبدالله عزام وغيرهم، ومع بروز نموذج القاعدة وما تم في الحادي عشر من سبتمبر 2001 تراجع مشروع طالبان وطغى مشروع “القاعدة”.

ظل نموذج الأفغنة متناميا بقوة حتى وصل إلى محطة خروجه من جغرافية ميلاده في أفغانستان إلى جغرافية أخرى في العراق، وتحديدا بعد احتلال العراق عام 2003.

فانتقل النموذج بأفكاره وأشخاصه، ومسمياته، فتم تأسيس فرع للقاعدة في بلاد الرافدين وكان أبو مصعب الزرقاوي هو الناقل الأبرز لتلك الأفكار، حتى لو أبدى بعض اختلاف مع أسامة بن لادن وأيمن الظواهري.

حدث تطوير على أفكار القاعدة لتصل في نهايتها إلى نماذج من داعش أو ما سمي “الدولة الإسلامية في بلاد العراق”، ثم بعد ذلك أضيف إليها “في بلاد العراق والشام”، وبالتالي تمت أفغنة العراق بشكل كامل فتحول إلى ساحة مفتوحة لجميع الجنسيات حاملة أفكار ما يعرف في أدبيات تلك الجماعات بالجهاد، الجهاد ضد المحتل الأجنبي لبلاد إسلامية، فكما كان الروس في أفغانستان محتلين أصبح الأمريكيون في العراق محتلين وهكذا تنامت الفكرة. 

ظلت “الأفغنة” حاضرة في العراق حتى مقتل أبو مصعب الزرقاوي، وتلاشي أفكار القاعدة أو خفوتها وبعدها بداية انسحاب الأمريكيين من العراق لينتهي نموذج الأفغنة ويتحول إلى نموذج آخر مستقل تماما في كل شيء وهو نموذج “العرقنة”  

                                             

“العرقنة” نموذج قد يعتبر أكثر سوءا من الأفغنة، رغم أنه لا مقارنة بين سيئين، الأسوء الذي ظهر هو جنوح النموذج في تطرفه نحو عنف الطائفية والمذهبية، تحديدا بعد تفجير قبة الإمامين العسكريين في 2006، وتأسيس ما عرف وقتها بفرق الموت، والقتل على الهوية.

وقتها تحول فكر العنف بحجة الجهاد والقتال ضد المحتل الأجنبي إلى العنف ضد الطائفة والمذهب الآخر، وتحولت فكرة تحرير الأرض من المحتل الغازي “الأمريكيين في العراق” والروس في أفغانستان، إلى فكرة أخرى وهي فكرة جني الغنائم وتمكين الطائفة المنتصرة.

 “العرقنة” وضعتنا أمام نماذج “التشيع السياسي” و”التشيع الميليشياوي” و”التشيع العسكري”، بدأت تتكون ميليشيات بتصنيفات صانعها ومؤسسها، وكل يخدم أغراضها ليس لها علاقة بالدولة التي تتحرك فيها المليشيات.

هنا علينا أن نقف أمام ظاهرة مهمة في تلك النماذج وهو الأيادي المحركة، فخلف كل نموذج هناك أذرع تحركه كما أن كل نموذج جاء تكوينه ضمن صراع إقليمي ودولي، ويهدف بالطبع إلى تحصيل غنائم.

فكما كان الأمريكيون هم الذراع المحرك والمغذي لفكرة “الجهاد ضد الروس” في أفغانستان ضمن صراع عالمي في حرب باردة امتدت حتى نهاية الثمانينيات، كان الإيرانيون أيضا هم المحرك والمغذي لفكرة الأذرع التي تكونت داخل العراق إبان احتلاله أمريكيا.

ومع تحقيق المكسب يقل الدعم ويتلاشى النموذج أو يعاد تشكيله لصالح مستفيد جديد.

الملاحظة الأبرز في تتبع نماذج الأزمات تلك، أنه حين يكتمل النموذج في تأسيسه وفي فكره ينتقل، فمع كل اكتمال هناك انتقال، فنموذج الأفغنة حين اكتمل انتقل إلى العراق، ثم ظل يتحور ويتحور ويتشكل حتى أصبح نموذجا مكتملا بذاته وهو “العرقنة”.

فحين اكتمل انتقل من مكانه إلى بيئة يريدها فضاءا جديدا له فكانت سوريا.

حين بدأت الأزمة السورية بعد 2011 ودخول إيران على خط حراك الشعب السوري والدفع بحزب الله اللبناني عبر الحدود إلى الأراضي السورية، ثم تحرك القاعدة تحت مسميات كثيرة لتدخل إلى الأراضي السورية لمواجهة “التشدد الشيعي”، فتحول حراك الشعب إلى صراع بين تشددين مذهبيين، وهو يعتبر تطبيقا لفكرة العرقنة بمعناه الجديد ما أسسه أبو مصعب الزرقاوي في العراق، وتحول بعد وفاته إلى نموذج داعش العراق “الدولة الإسلامية في بلاد العراق”، ثم تطور مع الانتقال الجغرافي إلى الدولة داعش العراق وسوريا “الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام”، وبالتالي كنا أمام نماذج مختلفة لمسمى جديد وهو داعش أو دواعش متعددة.

في الحالة السورية، يكمل الزمن دورته فيتحول الروس إلى ذراع مهم، محرك داخل الأراضي السورية، إما كداعم للنظام السوري أو لاعب عسكري على الأرض.

هكذا تظهر أيضا إيران كذراع ومحرك قوي داخل سوريا، للدفاع عن مكاسبها القريبة في العراق ولبنان ثم يدخل لاعب آخر جديد وهو تركيا، دولة الجوار السوري تحت حجة الخوف من الأكراد.

هنا يستعيد أردوغان نموذج العرقنة والأفغنة معا، فهو يشكل ميليشيات طائفية وفي نفس الوقت يحي فكرة دولة الخلافة عبر داعش “أبو بكر البغدادي” أو عبر جبهة النصرة.

ظل نموذج العرقنة قائما في سوريا يتحرك عبر مسميات كثيرة، حتى تلاشى النموذج وأصبحنا أمام نموذج آخر متكامل وهو “سورنة ” نسبة إلى سوريا.

نموذج السورنة هو خليط شديد التعقيد فيه كل النماذج السابقة، فيه العرقنة وفيه الأفغنة وانضاف إليه تعقيدات جديدة في المشهد نبعت من تعقيدات تغير خارطة التحالفات في العالم وفي المنطقة.

بدأ نموذج “السورنة” يكتمل وينتقل فتحرك من سوريا إلى ليبيا، لنكون أمام نموذج جديد تماما يختار رقعة جغرافية هشة تكون صالحة لينموا ويتكاثر فيها.

“سورنة ليبيا” تمت حين توفر الذراع الناقل للنموذج وهو أردوغان، الذي سيصبح المستفيد الأكبر هناك، فيبدأ في حمل المرتزقة من سوريا ليتم زرعهم في ليبيا هنا يصبح النموذج أكثر فجرا وفجاجة فهو نموذج خالي من أدبيات الجهاد القديم ضد المحتل الأجنبي كما كان في أفغانستان والعراق، ومبتعدا عن مليشيات العنف والتمذهب كما كان في سوريا والعراق.

وأصبح نموذج ارتزاق بالمعنى الكامل للكلمة، قتال مقابل مال.

 في المحصلة نماذج الأزمات هي بمثابة فيروسات خطيرة لا تصيب إلا الأجزاء الضعيفة في الجسد، وبالتالي هي لا تصيب سوى المناطق الهشة، ولا يمكن أن يكون هناك علاج لهذه الفيروسات التي هي أزمات قاتلة سوى بالسعي إلى إخراج البلاد الهشة من هشاشتها.

“الأفغنة” “العرقنة” “السورنة”، كلها نتائج لأزمات أكبر وفي نفس الوقت أسباب لأزمات أخرى.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

Related Articles

Back to top button