مع عقد القمة الأوروبية في بروكسل وتحديد إطارها في دعم أوكرانيا بعد 4 أشهر على بدء العملية الروسية، ومواجهة تبعات الحرب واحتياجات الاتحاد الأوروبي الدفاعية، نتساءل عن منظومة التوافقات بشأن قضايا أوروبية ودولية.
والتساؤل ليس متعلقا فقط بمسارات الحرب الروسية-الأوكرانية. فبالنسبة للتعامل الأوروبي مع حزمة العقوبات المقترحة على روسيا، فإن السياق العام مضى في مسار محدد يتضمن حظر واردات النفط الروسي عقابا لموسكو على عمليتها العسكرية في أوكرانيا، مع استثناء إمدادات عبر خط أنابيب.
لكن كان من الواضح في القمة عدم الاتفاق على جميع تفاصيل الحظر النفطي، وهو ما يشير إلى وجود قدر كبير من التباين والخلافات بين دول النطاقات الأوروبية، إذ إن هذا الأمر سيُخلُّ بالمنافسة العادلة، وتكافؤ الفرص في السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، والتضامن بين الدول الأعضاء في حالة توقف مفاجئ للإمدادات، وقد جاء ذلك مرتبطا بتراجع أسعار الغاز في أوروبا، إذ تراجعت العقود الآجلة القياسية وسط تداول ضعيف، فيما أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، أن بروكسل اقترحت مساعدة مالية استثنائية جديدة لأوكرانيا تصل إلى تسعة مليارات يورو في 2022، وقد سبق للاتحاد الأوروبي أن خصص مساعدة مالية طارئة لأوكرانيا بقيمة 1.2 مليار يورو على جانب آخر -ووفقا لما طرح في قمة بروكسل وخارجها- فمن الواضح أن الموقف الفرنسي ماضٍ في نهجه لإصلاح المعاهدات الأوروبية لجعل الاتحاد الأوروبي أكثر فعالية، من خلال اقتراح إنشاء منظمة سياسية أوروبية لإلحاق أوكرانيا بشكل أسرع بأوروبا مع تأكيد أن المنظمة السياسية الأوروبية ليست بديلاً لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولكنه قد يكون حل وسط قد يرضي بعض الأطراف وليس كل الحلفاء.
كانت فرنسا قد اقترحت السماح بالمضي قدما في الحزمة السادسة من العقوبات الأوروبية، ويعنى هذا الحظر وقف عمليات تسليم النفط الروسي عبر البحر، ووقف شراء النفط في غضون ستة أشهر، والمنتجات النفطية بحلول نهاية العام، وتتضمن الحزمة أيضا عقوبات جديدة على مصارف روسية وتوسيع اللائحة السوداء للاتحاد الأوروبي لتشمل شخصيات روسية جديدة -نحو 60 شخصية إضافية- بينهم رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية البطريرك كيريل.. واستبعاد مصرف “سبيربنك”، وهو أكبر مصرف روسي، “37% من السوق”، ومصرفيين آخرين من نظام “سويفت” العالمي.
ولعل حالة التوافق، التي اتضحت في القمة ما جرت بشأن توفير مسألة السيولة لأوكرنيا، وذلك بهدف الحفاظ على اقتصادها، ووضع إعادة إعمار البلاد، بالإضافة إلى الأمن الغذائي، حيث حشد الاتحاد الأوروبي استثمارات تصل قيمتها إلى 300 مليار يورو بحلول عام 2030، لإنهاء اعتماده على النفط والغاز الروسيين، وتشمل الاستثمارات عشرة مليارات يورو للبنية التحتية للغاز، وملياري يورو للنفط، وتخصص باقي الاستثمارات للطاقة النظيفة، كما طرحت قمة بروكسل أهدافا أكبر، ملزمة قانونيا للطاقة المتجددة، وترشيد استهلاك الطاقة بحلول 2030.. خاصة أن مبادرة إعادة النظر في قطاع الطاقة في الاتحاد الأوروبي “ري-باور-إي.يو” ستساعد في ترشيد المزيد من الطاقة لتسريع وتيرة الاستغناء عن الوقود الأحفوري، والأهم بدء استثمارات جديدة، وعلى نطاق واسع، مع إعطاء دفعة لتسريع وتيرة تحول الاتحاد نحو الطاقة الصديقة للبيئة المعروفة بالاتفاق الأوروبي الأخضر.
وفي المقابل، فإن حالة التباين برزت في فعاليات القمة وعلى هامشها، سواء من جانب بولندا، ودول البلطيق المساندة بشدة لعضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي، وهو ما رفضته فرنسا وألمانيا بتصريحات غير مباشرة عن مدى زمني كبير، كذلك في مجال الدعم غير المحدود من الأسلحة بعد تراجع ألمانيا عن صفقة دبابات مع بولندا كانت تمهد لدعم أوكرانيا بطائرات ميج 29، وكذلك رفض المجر أي عقوبات جديدة على روسيا، ورفض حظر النفط الروسي، هذا من شأنه أن يشكل سابقة للتهرب من العقوبات في المستقبل، وسوف يخرق قواعد المنافسة في الاتحاد الأوروبي، وسيكون موقفًا مساندًا لروسيا.
في المجمل، فإن القمة الأوروبية كانت محل مواقف متباينة، ولم يتم اتخاذ أي قرارات جديدة تذكر بشأن أي من الموضوعات الرئيسية.
ومن المرجح أن دول الاتحاد ستبدأ مسارا محددا في طريق فك الارتباط تدريجيا، ومنها على سبيل المثال الواردات الدولية، بيد أن هذا الأمر لا يتوقع أن يخفف من حدة الصدام داخل المنظومة الأوروبية حول هذه النقطة، حيث تمانع دول شرق أوروبا في طرح أي عقوبات على النفط والغاز الروسيين، بينما تبحث ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا عن مخرج لها من هذا المأزق في أوروبا، وتقدم النرويج نفسها بديلا أوروبيا محتملا. ما قد يعيد ترسيم خريطة التحالفات داخل دول الاتحاد.
ومعلوم أن دول أوروبا الشرقية تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة الروسية، على رأسها المجر التي تستورد 80% من احتياجاتها من الغاز و65% من نفطها من روسيا.
الأمر الذي يفسر موقفها الحالي إزاء الحرب في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على روسيا، وكذلك عرقلتها أي قرار بشأن حظر واردات الطاقة الروسية.. فيما يمنح النظام الداخلي للاتحاد الأوروبي -الذي يحتم على أي قرار أن يتخذ بالإجماع- بلغاريا المجال لتكون العقبة أمام أي توجه نحو سَن عقوبات أوروبية على النفط والغاز الروسيين.
وفي مجال الدعم العسكري لأوكرانيا، فإن هناك دولا مثل أمريكا وبريطانيا وبولندا بدأت تبحث جديا تزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة لفك الحصار، الذي يفرضه الأسطول الروسي حول أوديسا، حيث يخشى أن تتعرض للتلف ملايين الأطنان من الحبوب. فموسكو ستسعى إلى مقايضته بتنازلات على جبهتي العقوبات والإمدادات العسكرية إلى أوكرانيا، حيث يحتاج تنفيذه إلى ضمانات واتفاقات تستغرق أشهرا قبل أن يتم تنفيذ ذلك، حيث يقترح الاتحاد الأوروبي أن يكون الاتفاق برعاية الأمم المتحدة وتنفيذه تحت إشرافها، على غرار ما حصل بالنسبة للاتفاق الذي أدى إلى إخراج المقاتلين الأوكرانيين من مصنع الصلب في ماريوبول.
ثم هناك موافقة تركيا على عبور البحر الأسود، والتي كانت قررت إغلاقه منذ بداية الحرب، ويعود لها حق السماح لسفن الدول غير المطلة على هذا البحر بعبورها بموجب اتفاقية مونترو.
وفي حال وافقت روسيا وأوكرانيا على أن تتولى دولة ثالثة مهمة نزع الألغام من ميناء أوديسا والمياه المحيطة به، أعربت دول أوروبية عدة عن استعدادها لإرسال كاسحات ألغام وقطع بحرية لمواكبة السفن التي تنقل الحبوب.
إشكالية أخرى طُرحت في سياقات القمة، ولم تحظ بقبول، وتمثلت في التركيز على استثناء خط أنابيب دروجبا من الحظر النفطي لتكون العقوبات مفروضة فقط على إمدادات النفط عبر السفن، حيث يصل ثلثا إمدادات النفط الروسى إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر السفن والثلث المتبقي عبر خط دروجبا.
في المجمل، فإن نتائج القمة ستعمق بالفعل مساحات الخلاف بين الدول الأوروبية في ظل عدم وجود مقاربة حقيقية للتوصل لمسار محدد ينهي الحرب في أوكرانيا.