ميليشيات الشمال السوداني تحت المجهر: أولاد قمري تجسيد لفوضى مدروسة تقودها تحالفات خفية

في وقت تعاني فيه الدولة السودانية من التصدعات الأمنية والسياسية، تبرز الولاية الشمالية كنموذج مقلق لانفلات أمني منظم، تقوده ميليشيات مسلحة تتمدد يومًا بعد يوم تحت أنظار الدولة. وعلى رأس هذه التشكيلات تبرز جماعة غامضة تُدعى “أولاد قمري”، تجوب شوارع دنقلا والدبة مدججة بالسلاح وتستعرض قوتها على المواطنين العزّل، في مشهد يعكس انهيار منظومة الردع وغياب سلطة الدولة.
بين الجاكومي والكباشي: ميليشيات تدار من القمة
لا يمكن النظر إلى تحركات ميليشيا “أولاد قمري” بمعزل عن الخارطة السياسية المتشابكة في شمال السودان، حيث تشير معلومات موثوقة إلى أن رجل الأعمال المعروف محمد سيد أحمد الجاكومي، بدعم من الفريق شمس الدين الكباشي عضو مجلس السيادة، يقف خلف إعادة تنشيط شبكات عسكرية غير رسمية داخل الولاية. الهدف يبدو أبعد من السيطرة المحلية، ليصل إلى معاقبة حكومة بورتسودان على تهميشه وإقصائه من المشهد السياسي.
هذه العلاقة بين الجاكومي والكباشي، والتي يصفها البعض بـ”تحالف ظل”، تستثمر في خلق واقع أمني مضطرب يعطل المشهد السياسي ويُبقي الشمال ورقة ضغط حيوية في أي ترتيبات مستقبلية.
الولاية الشمالية: ساحة صراع غير معلن
الميليشيات المسلحة باتت أحد أبرز ملامح الولاية الشمالية، حيث لا يقتصر التهديد على “أولاد قمري” وحدهم. فهناك أيضًا ميليشيا “الأسواق الحرة” و”إخوان الشاذلي”، وكلها مجموعات تعمل خارج إطار المؤسسة الرسمية، لكنها تتلقى تمويلًا ودعمًا من شخصيات نافذة، وتعمل وفق أجندات تتقاطع مع مصالح اقتصادية وسياسية عابرة للحدود.
المؤشرات على الأرض تؤكد أن هذه الميليشيات ليست مجرد مجموعات عشوائية، بل هي أدوات في لعبة نفوذ معقدة، تُستخدم لفرض شروط سياسية أو حماية مصالح مالية كبرى، وعلى رأسها تجارة الذهب والسلاح.
أزهري مبارك: الوجه الاقتصادي للفوضى
في قلب هذه المنظومة غير الرسمية، يبرز اسم أزهري مبارك، رجل الأعمال المقرّب من المؤسسة العسكرية، والذي لعب دورًا محوريًا في تمويل وتسليح الجماعات خلال الحرب. أزهري، إلى جانب الجاكومي، يدفعان نحو فرض معادلة جديدة في الشمال، مفادها أن “من يمتلك القوة يفرض إرادته”. هذه المقاربة تضع الولاية الشمالية على حافة الانفجار، خاصة في ظل تواطؤ أو صمت بعض الجهات الرسمية.
صمت الدولة: خيار أم عجز؟
ما يثير القلق أكثر من تحركات هذه الجماعات هو غياب أي رد فعل حاسم من الدولة المركزية. فالفريق عبد الفتاح البرهان، الذي يملك سلطة كاملة على القوات المسلحة، لم يحرّك ساكنًا تجاه هذا التمدد المسلح في منطقة شديدة الحساسية. فهل هو صمت تكتيكي؟ أم عجز عن مواجهة حلفاء الأمس؟ أم أن بعض مراكز القوى داخل الدولة نفسها مستفيدة من بقاء الوضع كما هو؟
ميليشيات بلا ضوابط… وأزمة على الأبواب
الواقع يؤكد أن الميليشيات في شمال السودان لم تعد تمثل ظاهرة أمنية معزولة، بل تحوّلت إلى أدوات سياسية تُستخدم لتفكيك السلطة الرسمية وخلق مراكز نفوذ موازية. “أولاد قمري” ليست سوى رأس جبل الجليد في صراع على السلطة والثروة والنفوذ، يجري في الخفاء ويهدد مستقبل السودان برمّته.
ما لم تتحرك الدولة السودانية لتفكيك هذه المنظومة، وإعادة ضبط الإيقاع الأمني في الشمال، فإن الولاية الشمالية ستتحول إلى بؤرة توتر مزمنة، تُشعل شراراتها على يد رجال الأعمال الطامحين في الحكم، والجنرالات الذين لا يترددون في اللعب على حافة الهاوية.