لم تكن فكرة ما يسمى “الربيع العربي”، التي بدأت من تونس ولم تنته في سوريا، غايتها تحقيق مطالب الشعوب العربية بنيل -ما قالت عنه- حقوقها من أنظمة الحكم القائمة، على العكس تماما، كانت الغاية تدمير الأقطار العربية وابتلاع شعوبها وتغيير موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، وسلب سلطة القرار العربي من دول بعينها وتسليمه إلى أخرى.
في الواقع كان المشروع المدمر يهدف لإضعاف مصر وسوريا والسعودية والإمارات والأردن والعراق الجريح، وإعطاء الدور لدولة كانت تبحث عن حجم سياسي لها لا يتناسب طرديا مع حجمها الجغرافي والسكاني، وهي قطر، الراعي الرسمي لما سُمِّي بالربيع العربي، فحكام الدوحة وإن أخفوا طوال الفترة الماضية طموحهم إلى الاستيلاء على القرار العربي عبر مالهم الوفير ونفوذهم الإعلامي، فالوقائع كشفت تآمرهم على السعودية والإمارات ومصر وسوريا والعراق واليمن.
لا نجافي الحقيقة إن قلنا بأن قطر، وبمساعدة “تنظيم الإخوان” الذي تؤوي كبار قادته، استطاعت شق وحدة الصف العربي وتمكنت من تقليص نفوذ دول كانت بالأمس القريب اللاعب الرئيس في المنطقة، وكانت على بعد خطوات من الوصول إلى العمود الفقري للعرب وسندهم الرئيسي مصر، حين دعمت تنظيم الإخوان لاستلام الحكم ورهن البلد تحت عباءة المرشد الذي لا هم له سوى تنفيذ أجندته العابرة حدود مصر، حيث لا مشكلة، في مسلَّمات “الجماعة”، أن يحكم مصر إخوانيٌّ من أي دولة كانت على أن يصل من هو غير منخرط في صفوف “التنظيم” من المصريين.
في واقع الأمر ثمة ثلاثة أطراف تقف وراء مشروع إضعاف السعودية ليسهل لهم الانقضاض على المنظومة العربية برمتها وهي إيران وتركيا، ويتقاطعان في هدف واحد الوصول إلى قيادة العالم الإسلامي، فيما قطر تطمح لتزعم القرار العربي وحصره بيدها، وكلٌّ يسعى إلى هدفه وفق طريقته ومشروعه.
إيران تدرك أنه لا يمكنها الوصول إلى الثنائية مع السعودية في تمثيل العالم الإسلامي، وتشعر بأن صخرة كبيرة جاثمة على صدر مرشدها، لأنه لم يصل بما يسمى “الثورة الإسلامية” إلى طموحها بتصديرها إلى دول المنطقة رغم زرعها مليشيات تعتمد سياسة التبعية لطهران أكثر من ولائها لبلدانها، وهذا ما يعتبر فشلا حتى هذه اللحظة بعدم قدرة إيران على تسويق نفسها قطبا ثانيا للمسلمين أمام الديانات الأخرى، فنلاحظ أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اختار زيارة السعودية وجعلها محطته الأولى خارجيا بحكم دورها وتمثيلها المرجعية الوحيدة للمسلمين في العالم، لذلك تعمل ليلا نهارا على زعزعة الأمن والاستقرار في المملكة، عبر تحريكها ذراعها الحوثية في اليمن.
أما تركيا، فالأمر مختلف عندها، فحكامها لا يبحثون عن الجزء بل الكل، ويبررون ذلك بحقبة أجدادهم سيئة الذكر، حين حكم العثمانيون العالم العربي 400 عام باسم الدين، لذلك من غير المستغرب أن يتحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الراغب بالوصول إلى مقعد “السلطان العثماني” والتربع عليه من جديد، عن أن بلاده الأجدر بقيادة العالم الإسلامي، في إشارة للسعودية وإن لم يأت على ذلك صراحة.
أما قطر، فهي تبحث عن الزعامة، ولا شيء أكثر، فحكامها لا يستطيعون حتى اللحظة استيعاب حجمهم مقارنة بالمال الذي يملكون والأذرع الإعلامية التي يدعمونها، وهذا ما قادهم للتحرك يمينا وشمالا لبسط النفوذ والسيطرة، مستخدمين أدوات يحتكرونها هم وحدهم فحسب، فالدوحة العاصمة الوحيدة التي تمون القاعدة والإخوان والنصرة وطالبان والمليشيات الشيعية المتطرفة وهذا السلاح الأكثر فتكا، فهي قادرة على تحريكهم في شتى الاتجاهات وكيفما تريد، لذلك تسعى إلى إضعاف السعودية، ناهيك عن علاقتها الأكثر من جيدة مع إسرائيل.
مخطئ من يظن أن لا تنسيق بين الدول الثلاث من أجل إتمام مشروعها بإضعاف السعودية والوصول إلى مبتغى كل دولة، ولكن نستطيع القول بأن سببين اثنين حالا دون تحقيق هؤلاء غايتهم.
الأول الثقل الكبير للمملكة العربية السعودية في المنظومة العربية عامة، والإسلامية على وجه الخصوص سواء في القرار السياسي أو الديني والاقتصادي كذلك.
ثانيا اتجاه المملكة العربية السعودية للتحليق بسياستها الجديدة في العالمين العربي والغربي، بجناحين ثابتين غير قابلين للكسر، وهما مصر والإمارات العربية المتحدة، وهاتان الدولتان تشكلان العصب الرئيس للدول العربية بانتظار لم الشمل من جديد بعودة سوريا وانضمام الجزائر لهذا التحالف، عندها حتما ستفشل المشاريع المؤدلجة من إيران إلى تركيا، مرورا بالإخوان في قطر بكسر إرادة العرب والمسلمين بحفاظهم على قبلتهم وديارهم المقدسة.