كواليس التصويت الأممي على مقترح الحكم الذاتي: كيف كسب المغرب المعركة الدبلوماسية في الصحراء المغربية؟
 بعيدًا عن خطابات الاحتفاء الرسمية والبيانات الدبلوماسية الموزونة، تخفي الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن الدولي حول الصحراء المغربية واحدة من أكثر العمليات الدبلوماسية تعقيدًا التي خاضها المغرب في تاريخه الحديث. فالتصويت لصالح المقترح المغربي للحكم الذاتي لم يكن وليد لحظة سياسية عابرة، بل نتيجة عمل متراكم دام سنوات، جمع بين الحنكة السياسية، والذكاء الاستخباراتي، والدبلوماسية متعددة المسارات التي جعلت من الرباط لاعبًا مؤثرًا داخل المنظومة الأممية.
في الكواليس، بدأ المسار الحقيقي لهذا الانتصار قبل سنوات من التصويت، حين أعادت الدبلوماسية المغربية هيكلة أولوياتها الخارجية وفق رؤية ملكية واضحة، تقوم على الواقعية والتدرج بدل المواجهة والصدام. فالمغرب، بعد عودته إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، أدرك أن معركة الصحراء لا تُحسم بالشعارات أو الاصطفافات الإيديولوجية، بل ببناء تحالفات اقتصادية وتنموية تخلق واقعًا جديدًا يجعل المقترح المغربي خيارًا طبيعيًا وليس مفروضًا. وقد كانت هذه العودة نقطة تحول استراتيجية مهدت لإعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي لصالح الرباط.
التحقيق في مسار هذا القرار يكشف أن المغرب اعتمد سياسة “الدبلوماسية الهادئة” التي تجمع بين التواصل الميداني والاتصال السياسي المستمر مع القوى الكبرى. فبين واشنطن وباريس ومدريد وموسكو وبكين، عملت البعثات المغربية على تفكيك المخاوف وتوضيح جوهر المبادرة المغربية باعتبارها حلاً يضمن الاستقرار ولا يمس بمبدأ تقرير المصير، بل يعيد تعريفه في إطار السيادة الوطنية. وقد نجح هذا الجهد في تحييد كثير من المواقف التي كانت تميل سابقًا إلى الغموض أو التحفظ، لينتقل المغرب من موقع الدفاع إلى موقع الفعل والتأثير.
لكن وراء هذا النجاح شبكة علاقات اقتصادية وأمنية متشابكة ساهمت في بناء الثقة مع شركاء مؤثرين داخل مجلس الأمن. فالدعم الأميركي للمقترح المغربي، الذي تعزز منذ اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء في أواخر إدارة ترامب، لم يتراجع في العهود اللاحقة، بل تحول إلى التزام مؤسساتي عبر تصريحات متكررة من وزارة الخارجية الأميركية تؤكد على جدية المقترح المغربي وواقعيته. وفي المقابل، أعادت فرنسا صياغة موقفها التقليدي لتمنح دعمًا سياسيًا أكثر وضوحًا، في حين تبنت إسبانيا — صاحبة الارتباط التاريخي بالمنطقة — الموقف نفسه سنة 2022، لتشكل الدول الثلاث نواة صلبة للدعم الدولي للمغرب داخل مجلس الأمن.
التحركات المغربية لم تكن مقتصرة على المحاور التقليدية. فالمغرب وسّع نطاق تحركه إلى دول أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، حيث استطاع إقناع أكثر من أربعين دولة بفتح قنصليات في مدينتي العيون والداخلة، في خطوة رمزية قوية تترجم دعمًا سياسيًا واعترافًا عمليًا بالسيادة المغربية. هذه القنصليات لم تكن مجرد مكاتب تمثيلية، بل أدوات دبلوماسية ميدانية استُخدمت لتأكيد أن الصحراء المغربية أصبحت مركزًا للاستثمار والانفتاح الاقتصادي، لا منطقة نزاع كما كانت تُصوّر في الماضي.
مصادر أممية تحدثت عن أن الموقف الروسي والصيني في جلسة التصويت الأخيرة كان محلّ مراقبة دقيقة. فالدولتان، اللتان غالبًا ما تتحفظان على القرارات التي تحمل طابعًا سياسيًا غربيًا، لم تعترضا هذه المرة على القرار، ما اعتُبر مؤشرًا على أن الرباط نجحت في تبديد مخاوفهما بشأن الأبعاد الجيوسياسية للمقترح المغربي. ويُعتقد أن اللقاءات التي أجراها وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة في موسكو وبكين خلال العامين الماضيين ساهمت في توضيح رؤية المغرب القائمة على الاستقرار والتنمية بدل الهيمنة أو التوسع.
في المقابل، حاولت الجزائر ومعها جبهة البوليساريو استباق التصويت بحملة دبلوماسية مضادة في بعض العواصم، ركزت على إعادة طرح مقولة “تقرير المصير” في صيغتها الكلاسيكية، لكنها اصطدمت بتغير المزاج الدولي. فالعواصم الغربية الكبرى باتت تنظر إلى النزاع في الصحراء المغربية من زاوية الأمن الإقليمي، وليس الأيديولوجيا القديمة. كما أن السياق الدولي، في ظل الأزمات المتلاحقة من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، جعل الدول الكبرى تفضل الحلول الواقعية التي تضمن الاستقرار بدل المشاريع الانفصالية التي تفتح أبواب الفوضى.
في أروقة الأمم المتحدة، تَظهر المؤشرات على نجاح التحرك المغربي بوضوح. فقد تحوّل الموقف من الحديث عن “الأطراف المتنازعة” إلى الاعتراف بمقترح المغرب كمرجعية واقعية للحل. هذه الصياغة الدقيقة التي يردّدها مجلس الأمن منذ 2007، اكتسبت الآن معناها العملي بعد أن تحولت إلى قرار فعلي مدعوم بالأغلبية. ويشير دبلوماسي مغربي سابق إلى أن “المغرب لم يكسب التصويت فقط، بل غيّر لغة النقاش داخل مجلس الأمن، وهذا هو الانتصار الحقيقي”.
وراء هذا التحول أيضًا بُعد داخلي لا يقل أهمية عن العمل الخارجي. فالمشاريع التنموية الضخمة في الأقاليم الجنوبية — من ميناء الداخلة الأطلسي إلى شبكات الطرق والبنية التحتية الجديدة — قدّمت للعالم صورة مختلفة عن الصحراء المغربية. لم تعد المنطقة تُرى كصحراء جرداء تبحث عن هوية سياسية، بل كمنطقة مزدهرة تستعد لتكون بوابة إفريقيا نحو الأطلسي. هذه الصورة الواقعية كانت جزءًا من الخطاب المغربي في المحافل الدولية، وقد أقنعت العديد من المراقبين بأن النموذج المغربي يجسد مفهوم “الحكم الذاتي العملي” الذي يُبنى على التنمية قبل السياسة.
كذلك لا يمكن إغفال الدور الذي لعبته الدبلوماسية الموازية: شخصيات فكرية وبرلمانية وجمعوية مغربية اشتغلت بهدوء في عواصم مختلفة لتوضيح حقيقة النزاع، وتصحيح الصورة التي روجتها بعض اللوبيات المعادية. فخلال السنوات الماضية، توسعت شبكات العلاقات بين مراكز الفكر والمؤسسات الإعلامية الدولية والمجتمع المدني المغربي، ما ساعد في بناء سردية مضادة تنطلق من الميدان وليس من الشعارات.
من الزاوية القانونية، جاء التصويت ليؤكد أن الأمم المتحدة لم تعد تتعامل مع الصحراء المغربية كقضية “تصفية استعمار”، بل كقضية نزاع سياسي يحتاج إلى تسوية داخل إطار السيادة الوطنية. وهو ما ينسجم مع المبادئ الحديثة في القانون الدولي التي تمنح الأولوية للحلول التوافقية على حساب الانفصال. هذه النقلة في المرجعية القانونية كانت ثمرة تراكم المذكرات والتقارير التي قدمها المغرب إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة على مدى سنوات، والتي استندت إلى تجارب ناجحة للحكم الذاتي في مناطق أخرى من العالم.
أهمية هذا التصويت لا تكمن فقط في نتائجه المباشرة، بل في دلالاته الاستراتيجية. فالمغرب، الذي كان لسنوات يُتهم بالسعي لفرض أمر واقع، أصبح اليوم حاملًا لمشروع يحظى باعتراف أممي ويُقدَّم كنموذج يحتذى به في إدارة النزاعات الإقليمية. وفي المقابل، تجد الجزائر نفسها أمام مأزق دبلوماسي غير مسبوق، بعدما تآكلت سرديتها في المحافل الدولية وفقدت كثيرًا من حلفائها التقليديين في إفريقيا وأميركا اللاتينية.
إن قراءة هذا القرار الأممي تكشف أن الرباط لم تربح تصويتًا فحسب، بل أعادت هندسة المشهد الدبلوماسي برمّته. فمنذ إطلاق مبادرة الحكم الذاتي سنة 2007، راهن المغرب على عامل الزمن، ونجح في تحويل ما كان يُنظر إليه كتنازل إلى ورقة قوة. واليوم، بعد مرور ما يقرب من عقدين، تبدو هذه الرؤية وقد أثمرت إجماعًا أمميًا على أن المستقبل في الصحراء المغربية يُكتب بلغة الواقعية والتكامل، لا بلغة الانقسام والتناحر.
إن الانتصار المغربي في مجلس الأمن هو تتويج لمرحلة دبلوماسية محكمة التخطيط، استخدم فيها المغرب أدوات القوة الناعمة أكثر مما استخدم الخطاب السياسي الصدامي. وهي مرحلة تؤشر إلى بداية جديدة في مسار قضية الصحراء، عنوانها الواقعية، التنمية، والشراكة الدولية. أما الأهم، فهو أن المغرب لم يكتفِ بإقناع العالم بعدالة قضيته، بل نجح في جعل العالم نفسه يدافع عن منطقته الجنوبية باعتبارها بوابة للاستقرار في إفريقيا والعالم العربي.
 
 



 


