سياسة

كروت “أردوغان” المحروقة


طالما هناك لاعب، إذا لابد أن يكون هناك كرت يلعب به، وقواعد اللعبة السياسية، تقول إن الكرت حين يحرق لابد من تبديله بآخر. أردوغان، كواحد من المشاريع التوسعية الكبرى في المنطقة، أي مشاريع تتمدد خارج الجغرافية التركية، كان عليه أن يستعمل “الكروت” والأدوات التي تلائم البيئات التي يريد أن يتمدد فيها، وليس هناك أفضل من استخدام كروت تحمل نفس صفات وملامح مناطقهم.

فتجده في ليبيا مثلا يختار كرتا اسمه “فايز السراج” في طرابلس، وكرتا آخر اسمه “باشاغا ” في مصراته. وفي تونس تجده يختار كرتا آخر اسمه “الغنوشي” وهكذا. تبقى الكروت على طاولة اللعب طالما مازالت مؤثرة وتحدث التغيير المطلوب، وتتبدل تلك الكروت إذا أحرقت وفقدت تأثيرها.

لكن عملية تبديل الكروت السياسية لا تتم هكذا فجأة وإنما تحتاج تهيئة لينطلي الأمر على عوام الناس، قبل التغيير لابد من صناعة المقبولية الجماهيرية للكرت الجديد الذي ستلعب به . لذا ليس صدفة أبدا أن يعلن السراج أنه سيسلم سلطة رئاسة الحكومة والمجلس الرئاسي في طرابلس، وبينما يحدث في تونس من تلك الحملة من داخل حركة النهضة التي تطالب بعدم التجديد للغنوشي .

تزامن هذا الحراك يحتاج عينا فاحصة متمحصة لتقرأ عقلية اللاعب وليس عقلية الملعوب به، الغنوشي والسراج .فالغنوشي بالنسبة لأردوغان صفحة من كتاب كبير عنوانه “ورقة الإخوان في خطة التمدد التركي في المنطقة”، تعويضا عن فشل أردوغان في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي .أقام أردوغان دراسته بناء على معلومات أكدت له فيما بعد 2002 أن الإخوان وتنظيمات الإسلام السياسي هي الأقوى على الأرض، ولعل تلك النظرة تبناها الأمريكيون وقتها حين كانت “هيلاري كلينتون” وزيرة للخارجية، وأيضا قبلها حين خاضت “كوندليزا رايس” حملة كبرى للانفتاح على تلك التنظيمات.

وبدأ أردوغان خطة التهيئة إلى الدخول على خط التمدد في المنطقة بدغدغة مشاعر العرب والمسلمين عبر القضية الفلسطينية وتحديدا غزة، وبدأ مغامرته في كسر الحصار، وقافلة الحرية وغيرها، ثم مناظرته الشهيرة في مؤتمر دافوس، كلها كانت محاولة تلميع شخصيته وصناعة مقبولية له عند الجماهير العربية والإسلامية العريضة، وللأسف نجحت خطته فعلا، ورفعت صور أردوغان في حينها .

ثم جاء ماسمي بالربيع العربي، وطفا على السطح التنظيم الدولي للإخوان، فانحاز أردوغان بالكلية لهم، وبدأ في هذا التوقيت إعلان مشروعه، تركيا الكبرى باعتباره عثمانيا جديدا .في هذا الإطار يجيء الغنوشي، وحركة النهضة، وإخوان تونس كما كان إخوان مصر . كان على الغنوشي، أن ينجز لأردوغان مجموعة من الأهداف ليبقى كرتا ناجحا وغير محروق ، أولها إفساح المجال لموطئ قدم لتركيا ومن خلفها قطر في تونس، وذلك عبر محاولة تمرير اتفاقيتين للتمكين والسيطرة والتوغل والانتشار عبر ما يسمى الاستعمار الاقتصادي.

الاتفاقية الأولى هي الاتفاقية التركية، عنوانها التشجيع وتبادل الاستثمار، وفي باطنها تغول المال التركي على الاقتصاد التونسي وتدميره، أما الاتفاقية الثانية فكانت قطرية، مع صندوق التنمية وهو تابع لمجلس الوزراء القطري .

فشل “الغنوشي” ومن خلفه حركة النهضة وفريق إخوان تونس في تمرير الاتفاقيتين، بعد أن اكتشف الشعب التونسي أنهما محاولة لصناعة دولة قطرية تركية خارج سلطة الدولة التونسية، وتحويل تونس إلى بؤرة لتصدير الإرهاب إلى ليبيا وبقية دول المنطقة، وأيضا لتصدير القلاقل والنزاعات في دول الجوار الإقليمي .

الأكيد عند أردوغان أن الغنوشي فشل، وأنه غير قادر إطلاقا على أن يكون الرجل القوي القادر على تمرير ما يريده أردوغان، وبالتالي أصبح كرتا محروقا بالمعنى الكامل للكلمة، ووجب تغيره .لذا رأينا ذلك الفيلم، وثيقة تغيير الغنوشي من داخل حركة النهضة، وهو فيلم شوهد في مصر 2009 كما أوضحت في المقال السابق .

إذا تبديل “كرت الغنوشي” وإبقاء حركة النهضة كلاعب في الحالة التونسية، استوجب تغيرا من الداخل وليس إزاحة الحركة كاملة، ومحالة خلق جيل جديد يكون لديه مقبولية عند الشارع التونسي، لذا مسلسل ووهم تداول السلطة ومحاربة سلطة الحاكم الفرد وهذه المصطلحات التي انزلوها في غير موضعها .

ولكن ماذا عن السراج باعتباره أحد كروت اللعب الأردوغانية، نجح السراج ككرت في تحقيق بعض المكاسب الأردوغانية، ومعه كروت آخر خالد المشري، باشاغا وآخرون .نجحوا فعلا في أن يجعلوا طرابلس الليبية ولاية عثمانية تركية، لكن ليس هذا هو المقصد الذي يريده أردوغان أو يكتفي به .

أردوغان يريد ما هو أبعد من ذلك، هو يريد المكاسب أكثر من التواجد، هو يريد طرابلس وليبيا سلمة للوصول إلى كعكة الغاز في شرق المتوسط، لذلك حين وقع اتفاقيتين مع السراج، أمنية واقتصادية وترسيم حدود، كان يريد الوصول الآمن إلى هذه المكاسب .لكنه اصطدم بحائط الحراك المصري اليوناني حين تم توقيع اتفاقية ترسيم حدود، وبعدها انشأت مصر “منتدى غاز شرق المتوسط ” واستبعدت تركيا منه .

ولما تعقد الأمر أكثر بدخول الأوروبيين على خط المواجهة التركية، حين بدأ أردوغان في التحرش باليونان، أصبح أمر الكعكة مستبعدا وصعب المنال .وقتها فكر أردوغان في إعادة تدوير كروت اللعب، تبديل بعضها، أو تلوين بعضها .ولأن السراج هو الكرت الأبرز عند أردوغان، كان لابد من إزاحته، وإحلال ” فتحي باشاغا” بدلا منه، وكأن أردوغان يريد أيضا أن يتمدد جغرافيا قليلا من “طرابلس السراج” إلى “مصراتة فتحي باشاغا “، هناك حيث يحتمي بالمليشيات التي ستبقيه في المنطقة لسنوات لو فشل وطرد من ليبيا .

في المحصلة تبقى الشخصيات التي قبلت أن تكون “كروتا” ملعوبا بها وفيها هي علة العلل، وأزمة الأزمات، لأنه وعبر تجربة التاريخ المر في بلادنا، لم يدخل مستعمر إلا عبر خائن وعميل، ولم نخسر في معاركنا إلا عبر غدر وغش وخيانة.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى