سياسة

قواعد اللعبة الجديدة في المتوسط تتبلور من المستفيد ؟


نُذُرُ التوتر تتجمع يوما بعد يوم في مياه البحر الأبيض المتوسط، وكأنَّ كل طرف من الأطراف المتنافسة على مكنوناته فتحت سجل دفاترها القديمة وطرحت خرائطها على طاولة الصراع الذي يتدحرج رويدا رويدا نحو التأزم، وينتقل بوتيرة غير مسبوقة إلى تخوم ملتهبة .

لم تَعُد مسألةُ الدفاع عن المصالح والحقوق وحدها محركاً ودافعاً لرسم سياسة بعض الدول المعنية بالمتوسط، بعد أن رفع أردوغان وتيرة التحدي في وجه جميع الدول المتشاركة بمياهه، وأماط اللثام علناً عن مرامي سياسته دون اكتراث بمصالح الآخرين، وأوغل في صَلَفه إلى حدود إنكار أحقية غيره التاريخية والقانونية في مياه المتوسط وما يعنيه ذلك من استفزاز .

أسئلة كثيرة تقفز إلى حيز الذاكرة تتمحور بمجملها حول دوافع أردوغان وأهدافه المضمرة بشأن صب الزيت على النار في هذه المنطقة الحيوية من العالم؟ ما الذي يسعى إلى تحقيقه من وراء تأجيج صراع متعدد الوجوه ومجهول النهايات؟ هل أصبح الإحساس بالتضخم والجبروت خادعاً إلى هذا الحد له ولسياساته؟ هل يمتلك من القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية ما يجعله قادراً على الفوز بما يسعى إليه؟ .. لقد تحولت منطقة المتوسط بسبب نهجه إلى نقطة استقطاب دولي وتوتر إقليمي، واتجهت الأنظار إليها كونها بؤرة مشرعة على أبواب جحيم قد ينفجر في أي لحظة. يبدو أن بعض العواصم الغربية لم تَطْمَئن بعدُ لخطواتها العملية التي اتخذتها في المتوسط ولم تكتف بذلك بما فيها التعزيزات العسكرية التي أرسلتها، كفرنسا، ولا حتى لسياسة المناورات العسكرية وفلسفتها الردعية كما فعلت اليونان قياساً بمستوى التصعيد الذي تقوده أنقرة سياسياً وعسكرياً.

لقد فرض الابتزازُ التركي على الأطراف الأخرى ضرورة بلورة قواعد لعبة جديدة في المتوسط كما هو حاصل الآن، حيث تتجلى ملامحُها أكثر فأكثر مع مرور الأيام، وقد يكون إحدى تجلياتها ما أعلنه رئيس الوزراء اليوناني عن اعتزام بلاده مضاعفة طول الحد الغربي لمياهها الإقليمية في البحر الأيوني، إلى مسافة اثني عشر ميلا بدلاً من ستة أميال ليتسنّى تأسيسُ منطقة اقتصادية خالصة مع إيطاليا بعد اعتماد اتفاق الحدود البحرية بينهما من قبل برلماني البلدين. التوجه اليوناني لا يعكس رغبةً جامحة في الاستحواذ على منطقة بحرية متوسطية بعينها؛ بل ينبع من إحساس بالخطر التركي الداهم، وإلا فلماذا لم تتحرك أثينا نحو إبرام اتفاق كهذا قبل الأزمة التي افتعلها أردوغان؟ ولماذا لم تبرمْ اتفاقات مشتركة في المتوسط مع إيطاليا ومصر في الماضي؟ ولماذا لم يشهد البحر المتوسط مناورات عسكرية وتدريبات مشتركة تجمع دولاً تنتمي للنادي الأوروبي “إيطاليا واليونان وقبرص وفرنسا” في فترات زمنية سابقة؟ . ربما سياسة أردوغان ونزعته العدوانية أيقظَت الأوروبيين على مصالحهم المشتركة ودَفَعتهم للبحث عن قواسم مشتركة بينهم لمواجهة عَنَته وغروره.. قواعد اللعبة الجديدة التي تتبلور في المتوسط تنحو باتجاه بروز كتلة دولية متجانسة المصالح متقاربة التصورات والاستراتيجيات، وتستند في توجهاتها على معادلة الحقوق والمصالح مقابل احترام القوانين الأممية الناظمة للعلاقات بين الدول، وهي السبيل الأمثل لتنحية الأطماع الذاتية لدى تركيا – أردوغان وغيره من الذين يعتقدون بسهولة التطاول على حقوق الآخرين بوحي من تصورات القوة والغطرسة.

رهان أردوغان على الخلافات داخل الأسرة الأوروبية يتلاشى مع كل استفزاز وابتزاز يمارسه على الأوروبيين، سواء في ما يتعلق بمسألة اللاجئين أو مستجدات الموقف في شرق المتوسط، وهو بذلك يدفعهم من حيث لا يدري إلى التكتل والتكاتف، وإلى البحث عن سبل لحماية مصالحهم الاستراتيجية التي تتطلب تفعيلَ عوامل القوة الذاتية وتحويلَها إلى جبهة عريضة قادرة على الردع وعلى المواجهة في حال فرضها الطرف التركي، أما مسألة الاستعراض التي يتبناها أردوغان في المتوسط تحديداً؛ فلن تعود بالفائدة عليه، ذلك أن جميع المعطيات القائمة تؤكد أن قواعد اللعبة التي تتبلور في تلك المنطقة تنطوي على تحديات ومخاطر له ولسياسته التوسعية، بعد أن أفصح عن مشاريعه على امتداد القوس البحري المتوسطي .

الجانب الأوروبي بات يرمي بكامل ثقله في ملف المتوسط لتحقيق غرضين: الأول صونُ مصالحه وحمايتها، وهذا يتطلب استراتيجيات عمل سياسية ودفاعية متقدمة وهو ما يتضح جلياً في مواقفهم وممارساتهم حالياً، والغرض الثاني لجم اندفاعة أردوغان وتطاوله على مصالح الإقليم برمته، بعد أن تسلل عبر بوابة تنظيم الإخوان المسلمين في ليبيا إلى الحدائق الخلفية للقارة الأوروبية.

من الواضح أن ثمة تغييرات عميقة ستطال التحالفات القائمة في المنطقة المتوسطية، وأن السياسات الاستراتيجية للدول المعنية به سيتم إعادة النظر فيها على وقع التطورات المتسارعة في البحر المتوسط كونه يشكل مفتاحاً للتقاطع القاري بين كل من آسيا وأوروبا وأفريقيا، وتتعدد المضائق على امتداده من جبل طارق إلى السويس إلى البوسفور، ومن الطبيعي أن يستتبع ذلك تبدل في الأولويات تبعا للمعطيات السياسية والاقتصادية الراهنة. ميزان القوى على تخوم المتوسط يشير إلى أن كثرة اللاعبين لا تصب في مصلحة مفجّر الفوضى في تلك المنطقة، فأردوغان يجد نفسه وحيداً في مواجهة قوى دولية وعربية استشعرت خطراً يلوح في فضاءاتها، وحلفاؤه في الناتو هم من يرفعون البطاقة الحمراء في وجه سياسته؛ كل ذلك من شأنه أن يسرَّع عملية صياغة قواعد جديدة للعبة في المتوسط، حيث باتت أكثر قابلية للظهور بعد أن تقاربت الرؤى وتقاطعت المصالح أمام خطر يعتقد اللاعبون جميعاً أنه يهددهم .

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى