سياسة

سقوط الدولة العثمانية لم يكن مؤامرة على الإسلام


شاعَ بين الناس أن “سقوط الدولة العثمانية كان نتيجة مؤامرة على الإسلام”. وكانت صياغة هذه النظرية كالتالي: الدولة العثمانية هي الخلافة الإسلامية، الدولة العثمانية هي التي أبقت على الإسلام.. ولولاها لما كان هناك مسلمون ولانقضّ الأعداء على هذا الدين، الدولة العثمانية واجهت المؤامرات لأنها تحمل راية الإسلام، لم يكن المقصود إسقاط نظام الحكم العثماني أو إمبراطورية آل عثمان.. بل كان المقصود القضاء على الإسلام.

في تقديري، فإن معظم هذه الأطروحات غير دقيقة. إن وصف السلطة لنفسها بأنها خلافة، ووصف السلاطين لأنفسهم بأنهم خلفاء لا يغيّر من حقيقة أنها مملكة وراثيّة نشأت لتكون مُلكا لآل عثمان جيلا وراء الآخر.

لم تكن الدولة العثمانية أيضا هي الحافظة للإسلام، ذلك أن الأمة الإسلامية سابقة على آل عثمان، وهي لاحقة عليهم. بل إن العصر الذهبي للمسلمين قد انقضى مع نشأة المملكة العثمانية التي أخذت الأمة إلى عصر من التدهور العام، حيث الظلم والجهل.. وحيث الحكام المستبدون والولاة الفاشلون، ولقد انتهى ذلك العصر إلى انهيار الأمة وانسحاقها أمام الاستعمار الأوروبي، حين جرى توزيعها مثل قطع الحلوى، كلّ قطعة في اتجاه.

يؤمن المسلمون جميعا بأن حفظ الإسلام وحفظ القرآن هو وعدٌ إلهي كما جاء في القرآن الكريم، وأن مُلك آل عثمان لم يضِف إلى وعد الله شيئا. روّج العثمانيون والمتطرفون أن كل الحروب على الدولة العثمانية كانت حروبا على الإسلام ومؤامرة عليه.

لم يكن هذا صحيحا. هناك حروب الإمبراطورية البرتغالية، والإمبراطورية الإسبانية، والإمبراطورية الهولندية.. وهناك الحروب البريطانية والفرنسية. ولم تكن الحرب مع العثمانيين استثناءً من العصر أو خروجا على السياق.

لقد كانت كل هذه الإمبراطوريات تدين بالمسيحية، وكانت الحروب في معظمها مسيحية – مسيحية. فعلى الرغم من كونها حروبا سياسية واقتصادية، فإنها كانت بين جيوش مسيحية. هذا فضلا عن الحروب المذهبية الأوروبية كحرب الثلاثين عاما بين الكاثوليك والبروتستانت، وهي الحرب التي قضت على أعدادٍ هائلة من الرجال، ما دعا الكنيسة للدعوة إلى تعدد الزوجات. لقد قُتل ثلث سكان ألمانيا، ودمّر الجيش السويسري “المسيحي” 2000 قلعة، و1500 مدينة، و18 ألف قرية.. كلها “مسيحية”!

في هذا السياق، يمكن فهم الحرب العالمية الأولى والتي أدت إلى سقوط الدولة العثمانية. إن البديهية التي يتغافل عنها العثمانيون والمتطرفون هو أن نتائج الحرب العالمية الأولى هي: سقوط الإمبراطورية العثمانية “المسلمة”، وسقوط الإمبراطورية النمساوية – المجرية “المسيحية”، والتي كانت وريثة الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وكذلك انهيار الإمبراطورية الألمانية “المسيحية” وذلك بعد هزيمة الدول الثلاث في الحرب.

لقد كانت الحرب العالمية الأولى كارثة على الجميع، وهي من الحروب القليلة التي انهزم فيها الجميع، فقد انهار المنتصرون أيضا.. حيث غادرت فرنسا وبريطانيا موقع القوى العظمى منذ تلك الحرب، وإلى الآن.

كما أن الإمبراطورية الروسية قد انهارت قبل نهاية الحرب، حيث قامت الثورة البلشفية عام 1917.

كانت الحرب العالمية الأولى – إذن – بين ستّ إمبراطوريات: خمس منها “مسيحية” وواحدة “مسلمة”.

كانت الإمبراطورية العثمانية “المسلمة” حليفة الإمبراطورية النمساوية – المجرية وريثة “المسيحية” في العالم. وكانت ألمانيا “المسيحية” حليفة للدولتين.. أي أن التحالف العثماني كان مع قوى “مسيحية” ضد قوى “مسيحية” أخرى.

إنّ أصل الحرب لم يكن بسبب الرغبة في إنهاء الإمبراطورية العثمانية “المسلمة” وإنما نشبت الحرب بسبب اغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية في سراييفو.. كان القاتل والقتيل مسيحيين. قامت الإمبراطورية النمساوية “المسيحية” بإعلان الحرب على صربيا “المسيحية”. كان الحادث “مسيحيا – مسيحيا” وكانت الحرب “مسيحية – مسيحية”. ثم كان توسّع الحرب على نحوٍ تلقائي شأن كل الصراعات الدولية في العصر الحديث. وقد كان ولا يزال من طبائع الصراع الدولي أيضا، تفكك الإمبراطوريات المهزومة وإنهاؤها لصالح المنتصرين.

لم يكن تفكيك الإمبراطورية العثمانية إذن وتقسيمها عملا دينيا استثنائيا يتعلق بكونها دولة مسلمة، بل كان بسبب أنها دولة مهزومة. ولقد جرى أيضا تفكيك الإمبراطورية النمساوية – المجرية.. حيث تمّ فصل تشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، وتم فصل ثلثي المجر. وتحولت الإمبراطورية النمساوية الكبرى –ذات الـ15 قومية والـ11 لغة- إلى دولة النمسا حاليا، والتي تصل مساحتها إلى نصف مساحة محافظة مطروح. إن ما حدث ببساطة هو توزيع الإمبراطورية على (13) دولة!

لقد جرى نزع مناطق من روسيا أيضا – والتي كانت في جانب المنتصرين – من جراء انهيار الدولة وسقوط النظام، حيث تم أخذ دول البلطيق، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، كما تم انتزاع بولندا وفنلندا من السيادة الإمبراطورية الروسية.

لم تكن المؤامرة على الإمبراطورية العثمانية “المسلمة” إذن، بل كانت أيضا على الإمبراطورية النمساوية “المسيحية”. وقد سقط آل عثمان بعد 600 سنة من المُلك بمثل ما سقط آل هابسبورج بعد 500 سنة من العرش.

لقد شهدت الحرب العالمية الأولى نهاية أي إمبراطورية مسيحية تنسب نفسها للعصر المسيحي، أو تزعم لعرشها وراثة المسيحية الغربية. كانت الضربة القاصمة الأولى هي التي وجّهها نابليون بونابرت إلى الإمبراطورية المقدسة حين أنهى وجودها، ودخل الفاتيكان وألغى سلطة البابا، وقام بحلِّ الإمبراطورية الرومانية المقدسة عام 1806. لقد قالت الإمبراطورية النمساوية – لاحقا – إنها تحمل الراية المسيحية من الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولم يمنع ذلك من تدميرها وإلغائها بعد 100 عام.

لا يمكن القبول بما يقوله العثمانيون والمتطرفون، من فكرة المؤامرة على “إسلامية” السلطنة العثمانية، بل هي دورة التاريخ الثابتة. كانت هناك بالطبع مدارس غربية تناصب الإسلام العداء وتضمر للأمة البغضاء. لكن الأصل فيما جرى هو قواعد القوة وإدارة الصراع.

لم تخلُ الدولة العثمانية من فضائل، وقد كان من بين نخبتها مخلصون وأتقياء، وكان من بينهم شجعان وأقوياء. لكن ذلك لم يكن السياق العام للدولة التي تأسست على الجغرافيا أكثر مما تأسست على القيم، وسيطرت بالدم أكثر مما سادت بالعلم.

كان آخر “الخلفاء” العثمانيين عميلا بريطانيا، وكانت النخبة العثمانية حفنة من المتعجرفين كارهي أنفسهم. لقد نشأت الدولة العثمانية بالسلاح، وانهارت بالسلاح. ومن دون ضجيج أيديولوجي يمكن القول إنها سقطت.. لأنها أصبحت نموذجا لـ”الدولة الفاشلة” أو “الإمبراطورية الفاشلة”.

هذه السطور ليست درساً في علم التاريخ.. لكنها درس في علوم المستقبل.

نقلاً عن جريدة الأهرام

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى