سياسة

سفينة أردوغان ووهم ملء الفراغ


يعتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الفرصَ الإستراتيجية الناشئة في منطقة الشرق الأوسط لابد أن يتمَّ استغلالُها من قبَله بأي طريقة كانت. الواضح أن مداعبة هذه الفكرة لمخيلته دفعته إلى اعتماد سياسات عدائية تجاه جميع الدول المحيطة ببلاده براً وبحراً، ولم يعد يأخذ بالحسبان مصالح الآخرين وحقوقهم. اللافت في نهجه هو اعتمادُه سلوك المناورة والمهاترة، وعندما يصل الأمرُ حدودَ رفع الراية الحمراء في وجه سياسته ؛ يلجأُ إلى مسارات أخرى تتيح له فرصةَ التراجع أو التملص من تعهدات ذاتية تبنّاها أمام جمهوره. سفينةُ أردوغان “أوروتش رئيس” تصلح مثالاً للبرهان على جوهر العقيدة السياسية التي يتبناها الرئيس التركي والقائمة على ثلاثة حوامل :

– الحامل الأول هو التوهّم بأن محيطَ تركيا الحيوي وما يحوزه من إمكانات ومقدرات وثروات، هو من حق تركيا قبل غيرها حتى ولو كان البعدُ الجغرافي يتجاوز مئات الأميال داخل أراضي الآخرين، براً كسوريا وليبيا، وبحراً مياه شرق المتوسط .

– الحامل الثاني لعقيدته السياسية يتمثل بالمناكفة مع الآخرين المتضررين من سياسته التوسعية بطابعها العدواني ؛ حيث يلجأ إلى أسلوب المحاكمة والاستفزاز حين يسوق مبرراته لتدخله هنا وهناك وكأنه وصيٌّ على الآخرين .

– الحامل الثالث يعتمد بشكل ملموس على أسلوب المغامرة المترافقة مع الضجيج السياسي والإعلامي.

تلميحاتُ الأوروبيين ودعوتُهم للحوار بين أنقرة وأثينا شكلت نافذةً مناسبة لانقلاب أردوغان على ذاته؛ إذ التقطَ الاستعدادَ الأوروبيَّ وراح يبني عليه مواقفَ مغايرة لما كان قد تبناها سابقا بشأن طاقات وثروات المتوسط، وألقى بحزمة من الأعذار التي تمكّنه من المرور تحت عباءتها للتراجع، موحياً بأن مواقفه وسياساته لا تعني انتهاكَ حقوق الآخرين وسيادة بلدانهم، إنما فقط يسعى لحماية حقوق بلاده ومصالحها.

لوْ لم تلوحْ أوروبا بعصاها الغليظة ؛ هل كان لأردوغان التراجع عن مغامرته؟ ألم يكن اختراقُ البارجة اليونانية لسفينة التنقيب التركية وتعطيلُ مهمتها في المتوسط رسالةً عمليةً حازمةً وحاسمةً لردعه عن مخططاته العدائية ضد اليونان وصولا إلى تخوم أوروبا ؟ هل يعيدُ النظرَ بسياسته الخارجية التوسعية في ضوء التحديات التي بدأت تتجمع أمامه ؟ ألم يفعل الموقفُ المصري المدعومُ عربيا فعلَهُ في تغيير لهجة الرئيس التركي الاستعلائية؟. ثمة مؤشراتٌ على أن الرئيس التركي يسعى إلى توظيف السياسة الخارجية لخدمة مصالحه الشخصية والحزبية في الداخل، فاستعراضُ القوة في الإقليم، ورفعُ نبرة التحديات من شأنها إشغالُ الرأي العام التركي عن كثير من التحديات المتنامية التي يراكمها النهجُ الأردوغاني على واقعه ومستقبله ؛ ومنها التحدي الذي يواجهه اقتصادُ البلاد، والتراجعُ المتدرج والمستمر بسعر الليرة التركية، وحالةُ الجمود السياسي التي تضرب أوصالَ قطاعات كثيرة من البُنى الحزبية المعارضة، وحتى حاضنتُه الحزبية من أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاكم يلوذون بغالبيتهم بالصمت تجنباً لسياسة القمع التي يمكن أن يتعرضوا لها على أيدي سلطات أردوغان بعد أن كانوا يمثلون في كثير من المواقف صوتاً معارضاً من داخل بنية النظام الحاكم.

تعكسُ سياسةُ أردوغان، كما يبدو على أرض الواقع، تصوراته الخاصة المتعلقة بنظرية نشوء “فراغ” في نطاق الإقليم في لحظة تحولات جيو سياسية حادة ترافقت مع هبوب عواصف الصراعات المحلية وتداعيات ما يسمى بالربيع العربي، ويبدو أنه يبني على تصوراته هذه مُعْتَقَداً محورُه أنّ وضعَ بلاده الراهن يؤهلها كي تكون القوةَ القادرةَ والفاعلةَ على ملئه من خلال اعتماد قوته العسكرية لاحتلال بعض المواقع والأراضي في بعض الأحيان، أو انتهاز لحظة ضعف أحد الأطراف المتصارعة والتسلل إلى داخل المشهد لصالح طرف بعينه في أحيان أخرى، مما جعله مُمْعناً في نزعته التوسعية من سوريا إلى ليبيا إلى لبنان إلى جنوب القوقاز وكذلك شرق المتوسط، متجاهلاً حجم التبعات المترتبة على توسعه بعد أن تمدد على الأرض في تلك البقاع، فأسلوب استخدام المرتزقة قد يحقق بعض المكاسب في منطقة معينة لكنه لن يكون صالحاً في أماكن أخرى، والمغامرةُ السياسية سلوكٌ له مقتضياتُه وله ضوابطه من حيث الزمان والمكان وكذلك اللحظة المناسبة، على عكس المغامرات الميدانية التي يمكن أن تؤديَ إلى انهيارات على صعد عسكرية واقتصادية وبالتالي سياسية، كما حصل لسفينته في شرق المتوسط والتي حاول الالتفاف على حقيقة ما جرى لها على يد البحارة اليونان فلجأ كعادته إلى تبرير سحبها إلى شواطئ تركيا بحجة انتهاء المدة الزمنية لمهمتها وإفساح المجال للدبلوماسية كما ادعى.

من الواضح أن أردوغان ينزلق أكثر فأكثر، بسبب حساباته الخاطئة، نحو مزيد من الأزمات الداخلية والخارجية، ويسهمُ في تأجيج صراعات تنذرُ، في حال تَفجّرها، بنشوب حرائق تطالُه وتطالُ مصالحَ بلاده قبل غيرها، نظرا لوحدة الموقف الإقليمي والدولي الرافض لسلوكه ولنزعته الفوضوية التي عمقت الشروخ بينه وبين الدول المستهدفة بنهجه، واستنادُه إلى مجموعات من الميليشيات والمرتزقة في محاولاته لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة يجعلُه محاصراً أكثر في “الفراغ” الذي أوحى له بمغريات المغامرة التي يتورط بها حاليا.

نقلا عن الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى