سياسة

حمد بن جاسم.. قراءة خليجية مغشوشة


إميل أمين

كعادته في لي عنق الحقائق، وكعهده دوما مراوغا ومقدما السم في العسل، تحدث بالأمس رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم بكلمات مغشوشة عبر وسيلة التواصل الاجتماعي تويتر، وقد تزيأ بزي الحكماء والناصحين، بل بات أقرب إلى رجال الدين الطهرانيين، فيما الجميع يدرك كينونته وطرق الشر التي رسمها لبلاده منذ وقت مبكر، وكيف أدت بقطر إلى حال العزلة المريرة التي تعانيها.
على تويتر يستغرب بن جاسم، حسب تعبيره، ما وصل إليه حال مجلس التعاون الخليجي كمؤسسة، ويبدو أنه يسير وفقا للنظرية السياسية المعروفة بـ”التنبؤات الذاتية”، أي تلك الرؤى المغشوشة عادة، والتي تسعى إلى تحقيق ذاتها بذاتها، وكأنها حقائق ومسلمات على الأرض.
لم يتساءل بن جاسم عن السبب الذي أدى إلى إصابة مجلس التعاون بخلل، ذلك إذا اعتبرنا حديثه من الأصل به شيء من الصواب، وهو ينسى أو يتناسى عمدا أن الأدوار الكارثية التي لعبتها الدوحة كانت مورد التهلكة في الحال والاستقبال، لولا يقظة الأشقاء في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، وفي وجود جمهورية مصر العربية التي عانت ولا تزال من الأيادي القطرية المشبوهة داخلها والوثيقة واللصيقة الصلة بالإرهاب.
شهوة قلب بن جاسم هي انهيار مجلس التعاون الخليجي، غير أن واقع الحال يشير إلى غير ذلك، لا سيما أن الوزن النسبي الجغرافي والديموغرافي لقطر لا يحدث خللا ما حال عزلها، ما يعني أنها هي الخاسرة وليس بقية الدول الأعضاء الكبار شكلا وموضوعا، قضا وقضيضا.
لماذا لم يسأل بن جاسم نفسه عن السبب الحقيقي للأزمة التي يتعرض لها المجلس، والتي كانت قطر السبب الرئيسي فيها؟
الحقيقة التي دفعت دول المقاطعة إلى اتخاذ إجراء حاسم تجاه الدوحة تتصل بالدور التخريبي والهدام لـ”الإمارة الخليجية الصغيرة”، والتي تبلغ 11,571كم2، ومع ذلك وقر لدى الجميع أنها مصدر لشرور كثيرة وكبيرة منذ عام 1995، هذا في المدى القريب المنظور، فيما كانت قطر ومن ستينيات القرن المنصرم موئلا لجماعات أصولية مارست الإرهاب في بلادها ووجدت في قطر الملجأ والملاذ، وفي حكامها من يوفر لهم المهرب والمفر لا بدافع النخوة أو الشهامة العربية، بل تحسب للحظة التي يضحي فيها هؤلاء خناجر في خواصر عواصم وعوالم عربية، الأمر الذى تجلى للعيان في سنوات ما عرف زوراً بأنه “الربيع العربي”، لا سيما أنه كان “شتاء إسلامويا”، “وأصولية دموية”، تعاني من جرائها عدة دول حتى الساعة، وقد كادت العاصفة أن تقتلع الجميع قبل أن يتم التنبه للدور القطري في الحال والاستقبال وكارثيته على سكان الخليج العربي، وبقية دول الوطن العربي.
لا يفهم بن جاسم سوى عبارات التخوين والعمالة، ويظن أن الجميع كما حال قطر لا بد له وبحتمية ضرورية تاريخية أن يعمل لحساب السيد الآخر الذي لا يظهر في الصورة، وإنما يعطي أوامره ويباشر توجيهاته من وراء الكواليس.
لا يرى بن جاسم أن دول المجلس قادرة على الالتئام والاجتماع إلا إذا طلب الغرب منها اجتماعا، من أجل تحقيق مصالحه، سواء عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، حسب قوله.
يشبه الرجل -المعروف بعلاقاته المثيرة للشكوك شرق أوسطيا ودوليا- دول المجلس بالكورال الذي ينتظم في الغناء من أجل أن يظهر بالمظهر اللائق أمام الأصدقاء، ويبدو أن مكنونات صدر الرجل عطفا على عقله الباطن تشير جميعا إلى وضعية قطر وقبل أن تمثل الآخرين، والظاهر أن أوهام الغرور أفقدته قدرته على رؤية جزيرته وما عليها من قواعد عسكرية للأجنبي، وما قام به وزير خارجيته مؤخرا في الولايات المتحدة الأمريكية من محاولات للترويج لدور قطر في تعميق وتوسيع قاعدتي العديد والسيلية، الأمر الذي لم يجد آذانا صاغية من الأمريكيين، خير دليل على من هو الذي يسعى لتقديم خدمات للأصدقاء، حتى وإن كان الأصدقاء هؤلاء متمثلين في الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه وعدد بالغ من قيادات الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء قد رفضوا هذا العرض.
يحاجج بن جاسم بما يسميه الظروف التي تتعرض لها المنطقة، لكن عن أي ظروف يتحدث؟ هل عن الأموال التي وصلت إلى حد المليار دولار التي دعمت بها الدواعش في سوريا والعراق، أم عن الأدوار الهدامة في تمويل الحوثيين في اليمن، أم عن إشعال ليبيا بالإرهابيين وتزويدهم بالسلاح؟
ربما كان بن جاسم يقصد الأزمة الأخيرة المتعلقة بمأساة الصحفي السعودي جمال خاشقجي، لكن ما أقدمت عليه المملكة العربية السعودية في جرأة ونزاهة وسرعة تقديم الجناة للمحاكمة أفقد قطر وقناة الشر المتحدثة باسمها أي أوراق للعب على المتناقضات.
والحقيقة التي يحاول أن يداريها بن جاسم هي أن الظروف تتصل بإيران “الشريفة”، حسب وصف مندوب بلاده في اجتماع جامعة الدول العربية ذات مرة، إيران التي ما فتئت تدبر المكايد والمؤامرات لدول الخليج سرا وجهرا، ليلا ونهارا، إيران التي اتخذتها الدوحة حليفا استراتيجيا وقدمت على مذابحها علاقتها بأشقائها في الخليج قربانا غير زكي.
الظروف جيدة ومواتية لدول مجلس التعاون باستثناء قطر، والتي ستنعكس ولا شك عليها مقررات الجولة الثانية من العقوبات الأمريكية على إيران في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وفي المقدمة منها وقف تصدير أكبر قدر من النفط الإيراني خارج البلاد.
في قصيدته الخالدة عن “الثعلب والديك” ينتهي أمير الشعراء أحمد بك شوقي إلى القول:
قالوا وخير القول قول العارفينا
مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا
وكل لبيب بالإشارة يفهم

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى