تونس بعد الثورة: إعادة تعريف الحرية والكرامة
تحلّ اليوم الذكرى الخامسة عشرة لاندلاع شرارة الثورة التونسية، وهي مناسبة لا تمثل فقط استحضاراً للحظة رمزية غيرت وجه المنطقة، بل هي وقفة تأمل عميقة في مسار معقد خاضته الدولة والمجتمع منذ ذلك الحين.
ويأتي إحياء هذه الذكرى في سياق وطني استثنائي. فإذا كانت السنوات الأولى للثورة قد ركزت على تحطيم قيود الاستبداد وإرساء التعددية، فإن تونس اليوم تعيد صياغة مفهوم “الكرامة” ليكون مرادفاً لسيادة القرار الوطني والاعتماد على الذات. ولم تعد الكرامة مجرد شعار يُرفع في الساحات، بل أصبحت استحقاقاً يُترجم عبر بناء مؤسسات صلبة تهدف إلى تحقيق الاستقرار.
وتقف البلاد أمام حتمية الاعتماد على الذات وتطهير الإدارة وإصلاح المؤسسات العمومية، فيما تشير الآفاق إلى ضرورة الانتقال نحو اقتصاد أخضر ورقمي، واستغلال الموقع الاستراتيجي لتونس كبوابة لإفريقيا لتجاوز الأزمة المالية.
ولا تزال الجهات الداخلية (مثل سيدي بوزيد، القصرين، وتطاوين) تنتظر تمييزاً إيجابياً وتنمية حقيقية، وسط مطالب بعقد اجتماعي جديد يربط بين الحقوق السياسية والعدالة الاجتماعية لضمان عدم تكرار مسببات الانفجار.
ويرى نشطاء تونسيون أن ذكرى 17 ديسمبر/كانون الأول ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي سيرورة مستمرة، في وقت تعيش فيه البلاد مرحلة “مخاض” تسعى فيها للبحث عن توازن بين سيادة الدولة وتطلعات الشعب المعيشية.
وتظل حرية التعبير هي المكسب الأبرز والأكثر صموداً، رغم الجدل القائم حول القوانين المنظمة لها (مثل المرسوم 54)، حيث أصبح المواطن التونسي فاعلاً في الفضاء العام، وكسر حاجز الخوف بشكل نهائي.
ويوم الجمعة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 أضرم الشاب محمد البوعزيزي النار بنفسه احتجاجا على مصادرة السلطات عربة يبيع عليها الفاكهة والخضار، وللتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها بحق الشرطية فادية حمدي التي صفعته أمام الناس وطالبته بالرحيل.
وفي 2 ديسمبر 2021 قرّر الرئيس التونسي قيس سعيد تحويل ذكرى الاحتفال بالثورة من 14 يناير/كانون الثاني تاريخ هروب الرئيس زين العابدين بن علي من البلاد إلى 17 ديسمبر تخليدا لإطلاق البوعزيزي صرخة الثورة عبر إحراق نفسه.
وأدى ذلك إلى اندلاع مواجهات في اليوم التالي من الحادثة بين مئات الشبان في سيدي بوزيد وولاية القصرين مع قوات الأمن خلال مظاهرة للتضامن مع البوعزيزي والاحتجاج على ارتفاع نسبة البطالة والتهميش والإقصاء.
وتوسعت دائرة الاحتجاجات لتنتقل إلى البلدات والمدن المجاورة، وتطورت بشكل متسارع وارتقت لتأخذ طابع سياسي ومطالبة الشعب بتنحي بن علي عن منصبه وبالحريات ومحاسبة العابثين بالأموال العامة والتحقيق بقضايا الفساد.
وشهد يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011 المظاهرة الكبرى بشارع الحبيب بورقيبة ضمت أبناء العاصمة وضواحيها وبالتوازي كانت هناك مظاهرات في مدن أخرى.
وهدد المتظاهرون باقتحام قصر قرطاج ما أدى إلى فرار بن علي إلى ليبيا ومنها إلى السعودية التي توفي فيها في 19 سبتمبر/أيلول 2019 بعد نحو 24 عاما من حكم بلاده.
حركة البوعزيزي عفوية
الأسعد البوعزيزي ناشط سياسي معارض قبل الثورة وعمل صحبة محمد البوعزيزي في سوق الخضار بسيدي بوزيد، قال للأناضول إن محمد “هو شرارة الثورة، ولكن كل الأجواء آنذاك كانت مهيئة لحصول ما حصل وقد يتكرر ذلك الآن”.
وأضاف “يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 كنا مجموعة نناصر المظلومين، تلقينا هاتفا بأن شخصا أحرق نفسه أمام مقر الولاية فتبين أنه محمد حيث نقل إلى مستشفى الحروق ببن عروس بالعاصمة تونس”.
وقال “كنا 10 أشخاص نحاول التصوير وفي ذلك اليوم، وفي النصف ساعة الأولى من وقوع الحادث بدأ الناس يتجمعون ونزع الخوف من قلوبهم والتحقوا بنا في مسيرة احتجاجية”.
وحول التشكيك في الثورة قال البوعزيزي إن “الاتهام بأنها صنيعة مخابرات أجنبية تافه وقد يكون مصدره الموساد (الإسرائيلي) ليمنع عنها أي انتصار، لأن بن علي كان طاغية من أكبر طغاة العصر وهرب بعد أن أسقطه محمد وهو إنسان عادي يعمل على قوت يومه”.
شعارات الثورة
من جهته، يرى الباحث الجامعي في الأنثروبولوجيا الأمين البوعزيزي أنه “من شعارات ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول نفهم ما الذي جرى”. وأضاف للأناضول أن شعار “التشغيل استحقاق يا عصابة السراق” ذهب مباشرة دون وسيط أيديولوجي ودون وسيط حزبي.
وتابع أن “الشعار الثاني في قلب الأحداث بولايتي سيدي بوزيد والقصرين هو أمس أخرجنا فرنسا واليوم نخرج للاستقلال”، لافتا إلى أن هذا الشعار كانت تردده النساء مصاحبا للزغاريد عند انسحاب الشرطة، ويعنين بذلك أن المعركة ليست ضد السلطة بل ضد دولة استعمارية تمت تونستها”.
أنصار سعيّد: استرجاع الثورة
أحمد الهمامي المتحدث باسم “تحالف أحرار” (مناصر لسعيد) يرد على البوعزيزي بالقول “بالنسبة لنا في تحالف أحرار ما حدث في 17 ديسمبر/كانون الأول هي انتفاضة شعبية وليست ثورة بأتم معنى الكلمة”.
وأضاف الهمامي “بعد 14 يناير 2011 رئيس الثورة هو فؤاد المبزع (ترأس تونس مؤقتا في 15 يناير 2011 حتى 13 ديسمبر من ذات العام) وهو رمز من رموز نظام بن علي والباجي قايد السبسي (تولى الرئاسة في 31 ديسمبر/كانون الأول 2014 حتى وفاته في 25 يوليو/تموز 2019) رمز من رموز النظام السابق تقلد عديد المناصب زمن بورقيبة وبن علي”، متابعا “يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 يوم عظيم ولكن ثورة الشباب سرقت يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011”.
ووفق الهمامي “تم استرجاع الثورة في 25 يوليو/تموز 2021 عندما أخذ الرئيس قيس سعيد بزمام الأمور وأرجع الثورة للشعب”. وحول ما يقال بأن السلطة الحالية هي سلطة إعادة منظومة ما قبل الثورة قال إن “هؤلاء يسعون للتشويش على مسار الثورة”.







