سياسة

توكل كرمان والمتلاعبون بالعقول


لا تزال العديد من الدوائر الغربية، لا سيما داخل الولايات المتحدة الأمريكية، تعزف نشازا على أوتار جماعات الإسلام السياسي ورموزها الموصومة بالإرهاب، والمعروفة للقاصي والداني بتشجيعها على العنف بكافة أشكاله، الايديولوجي والجسدي.

في مقدمة الوجوه ذات الارتباط الكبير بالحلقات الإخوانية التركية والقطرية وما بينهما، تأتي اليمنية توكل كرمان، التي جعلوا منها – على غير حق – رمزاً من رموز الساعة الحاضرة، وإن كان القارئ المحقق والمدقق يدرك أنها رمز مغشوش، وعلامة أبوكريفية في عالم النضال الإنساني، لكن القصة أكبر من كرمان، إنها ليست أكثر من بيدق على خارطة الشطرنج، يتم التلاعب بها، كما بحركات الإسلام السياسي منذ نشأته وحتى الساعة، بهدف تحقيق مصالح استراتيجية أبعد مما تدركه عقول من يتم التلاعب بهم.

فجأة أعلن السيد مارك زوكربيرج أنه ماض قدما في تشكيل ما أطلق عليه “مجلس حكماء الفيسبوك”، والذي يهدف إلى مراجعة ما ينشر على تلك الأداة الإعلامية التي غيرت الأوضاع وبدلت الطباع حول العالم، إلى الدرجة التي صار معها البعض يتساءل: “أيكون الفيس بوك هو الوحش الذي سيظهر في نهاية الزمان ويتحكم في أدمغة العالم؟”.

بالطبع القصة أكبر من أن تدركها كرمان، والتي خيل إليها، في جهل مطبق، أنها قد صارت قيمة فكرية فلسفية تعادل فلاسفة فرايبوج، أو كاريزما سياسية توازن قادة العالم في ستينات القرن المنصرم، فكتبت مشيرة إلى أنها ستشارك في تقييم الأفكار التي ستنشر على الفيسبوك.

أمران يجب الالتفات إليهما في قصة مارك زوكربيرج الجديدة:

الأول: هو أن فكرة مجلس الحكماء الذي يدير ما يشبه السياسات التحريرية للفيسبوك، هي فكرة شمولية في حد ذاتها، بعيدة كل البعد عما ينادى به من فوق سطوح الغرب بحرية الرأي والتعبير. بالضبط كما ذهب المفكر الأمريكي الجنسية الياباني الأصل فرانسيس فوكاياما إلى طرحه الخاص بـ”نهاية التاريخ”، والذي يصادر فيه على حركة الحياة وتطورات الطبيعة، وهي الفكرة التي تعادل بالضبط رؤية أودلف هتلر للرايخ الأماني الثالث، الذي يتوجب أن يعيش ألف عام .

في هذا الإطار الشمولي يكاد المرء يتساءل: “هل من رابط بين هذا التوجه، والقراءات الأصولية السابقة لجماعة الإخوان التي قال منظروها أنهم سيحكمون المنطقة لمدة خمسمئة عام على الأقل؟

مهما يكن من أمر الجواب فإن اختيار كرمان هذا يعني أن المباراة بين بعض الدوائر الغربية وبين عالمنا العربي تحديدا لم تنته بعد، وأن هناك ترتيبات تجري وراء الكواليس، وقد يخيل إلى البعض أنه قادر على النفاذ من جديد من خانة الأصوليات القاتلة، الأمر الذي يؤكد صدقية القول بوجود آلية غربية مميتة تدفع لإعادة ارتكاب الأخطاء الأوربية والأمريكية من جديد عبر اللعب على أوتار الإخوان وبقية الفصائل الإرهابية.

الثاني: هو أن الفيسبوك، يكاد يتحول من مجرد أداة للتواصل الاجتماعي، إلى عالم ما ورائي قائم بذاته، ومواز للعالم الحقيقي، وعما قريب مشارك في صنعه، والتأثير في مجرياته بشكل يدعو للشك والريبة.

قبل نحو عامين صدر لنا مارك زوكربيرج رؤية لمجتمع أممي، الفيسبوك هو عماده، وأصدر بيانا يقع في نحو ستة آلاف كلمة عن رؤيته لهذا المجتمع وهي كالتالي:

  1. مجتمع داعم: يقوي المؤسسات التقليدية، لكنه يتساءل كيف يمكننا مساعدة الناس في بناء عالم تتناقض فيه عضوية هذه المؤسسات؟

  1. مجتمع آمن: يدفع الضرر، لكنه مشروط بكيفية مساعدة الناس في مواجهة الأزمات، وإعادة البناء في عالم يستطيع فيه أي أحد أن يؤثر فينا حيثما كان.

  1. مجتمع مطلع: يعرض علينا الأفكار الجديدة، مع الأخذ في عين الاعتبار كيفية بناء التفاهم المشترك في عالم لكل شخص فيه صوته الخاص.

  1. مجتمع يعزز المشاركة المدنية: وهو أمر يشترط حتمية البحث في مساعدة الناس في بناء عالم يشارك في انتخابه أقل من نصف تعداد الناخبين أحيانا.

  1. مجتمع شامل: يعكس قيمنا الجمعية، ويربط هذا المجتمع بإمكانية مساعدة الناس في بناء إنسانية مشتركة على المستويات المحلية والعالمية، مجتمع ممتد عبر الثقافات والأمم والمناطق، في عالم لا يحتوي سوى القليل من المجتمعات التي تتسم بالعالمية.

هل نحن أمام المدينة الفاضلة التي يقوم ببنائها زوركبيرج بشكل نبوي إن جاز التعبير، أم أن هناك توجهات غائبة عن الأعين حتى الساعة وستظل في غالب الأمر كذلك الى أمد بعيد؟

مهما يكن من شأن الجواب، وهو الأمر الذي يحتاج إلى عملية بحثية مطولة، سيما وأن قرابة ثلاثة مليارات إنسان حول قارات العالم الست يتحلقون صباح مساء كل يوم من حول الفيسبوك، ما يعني أنه قادر أن يصنع لهم صيفا أو شتاء متى أراد، يبقى الشيء الخطير والكبير، هو أن العالم مقبل على مرحلة جديدة من مراحل التلاعب بالعقول، والأمريكيون بنوع خاص بارعون في هذا السياق وذلك النموذج، والذين لديهم علم من كتاب هيمنة أمريكا على العالم، يدركون أن واشنطن ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية سيطرت على مقدرات العالم من خلال ما أسماه البروفيسور الأمريكي “هربرت ا. شيلر”، أستاذ مادة الاتصال في جامعة كاليفورنيا، في مؤلفه العمدة “المتلاعبون بالعقول”، “تصدير تقنيات الاستمالة، وهناك أمثلة كثيرة جدا على هذا النموذج ومنها مشروب “الكوكاكولا”، ومجلة “رايدرز دايجست”، والتي عرفت باسم “المختار” من خمسينات وحتى ثمانينات القرن الماضي، ناهيك عن منتج هوليوود من “أفلام الكاوبوي” الغربي .

اختيار كرمان ضمن طائفة زوكربيرج الجديدة يأتي ضمن أسس عملية تداول الصور والمعلومات التي يقوم عليها مديرو أجهزة إعلام أمريكا منذ وقت طويل، ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعتقدات التي تحدد معتقداتنا ومواقفنا، بل وتحدد سلوكنا في النهاية.

اختيار زوكربيرج لكرمان وبعض الرموز الأمريكية التي من حولها علامات استفهام مثيرة، يؤكد على أن صانعي الإعلام المعولم في مرحلة تحول إلى “سائسي عقول”، إن جاز التعبير، ذلك أن الأفكار التي تنحو عن عمد إلى استحداث معنى زائف، وإلى إنتاج وعي لا يستطيع أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة أو أن يرفضها، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، ليست في الواقع سوى أفكار مموهة أو مضللة.

اختيار كرمان على خطورته وحتمية التنبه لآثاره السلبية، لابد وأن تسبقه مرحلة وعي أعلى لمواجهة العالم القادم، عالم ما بعد كورونا، عالم الفيسبوك وحكمائه المزعومين، وهو الأمر الذي لا تشفع أو تنفع معه العبارات الزاعقة أو الرايات الفاقعة، بل الخطط المواجهة المنطلقة من الذات لا من الآخرين.

من يعطي الإعلام الشرعية في حاضرات أيامنا؟

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى